وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ:
فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْحَاءِ وَيَاءٍ بَعْدَ الْمِيمِ، أَيْ حَارَّةٍ مِنَ الْحُمُوِّ وَهُوَ الْحَرَارَةُ، أَيْ أَنَّ مَاءَهَا سَخَنَ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ مِنْ عُيُونِ النِّفْطِ الْوَاقِعَةِ عَلَى سَاحِلِ بَحْرِ الْخَزَرِ حَيْثُ مَدِينَةُ (بَاكُو) ، وَفِيهَا مَنَابِعُ النِّفْطِ الْآنَ وَلَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا يَوْمَئِذٍ. وَالْمُؤَرِّخُونَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَهَا الْبِلَادَ الْمُنْتِنَةَ.
وَتَنْكِيرُ قَوْماً يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ أُمَّةٌ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ وَلَا مَأْلُوفَةٍ حَالَةُ عَقَائِدِهِمْ وَسِيرَتُهُمْ.
فَجُمْلَةُ قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا أَشْعَرَ بِهِ تَنْكِيرُ قَوْماً مِنْ إِثَارَةِ سُؤَالٍ عَنْ حَالِهِمْ وَعَمَّا لَاقَاهُ بِهِمْ ذُو الْقَرْنَيْنِ.
وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِلْعَذَابِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَهُمْ كَانَتْ فِي فَسَادٍ مِنْ كُفْرٍ وَفَسَادِ عَمَلٍ.
وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَوْلُ إِلْهَامٍ، أَيْ أَلْقَيْنَا فِي نَفْسِهِ تَرَدُّدًا بَيْنَ أَن يُبَادر استيصالهم وَأَن يُمْهِلَهُمْ وَيَدَعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَحُسْنِ الْعَمَلِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ، أَيْ قَالَ فِي نَفْسِهِ مُعْتَمِدًا عَلَى حَالَةٍ وَسَطٍ بَيْنِ صُورَتَيِ التَّرَدُّدِ.
وَقِيلَ: إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ نبيئا يُوحى عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ كَلَامًا مُوحًى بِهِ إِلَيْهِ يُخَيِّرُهُ فِيهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، مِثْلَ التَّخْيِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [مُحَمَّد: 4] ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ جَوَابًا مِنْهُ إِلَى رَبِّهِ. وَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ إِظْهَارَ سَدَادِ اجْتِهَادِهِ كَقَوْلِهِ: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ [الْأَنْبِيَاء: 79] .
وحُسْناً مُصَدَرٌ. وَعَدَلَ عَنْ (أَنَ تُحْسِنَ إِلَيْهِمْ) إِلَى أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً مُبَالَغَةً فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ حَتَّى جَعَلَ كَأَنَّهُ اتَّخَذَ فِيهِمْ نَفْسَ