وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)
بَعْدَ أَنْ أَمَرَ الله نبيئه صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم بِمَا فِيهِ نَقْضُ مَا يَفْتِلُونَهُ مِنْ مُقْتَرَحَاتِهِمْ وَتَعْرِيضٌ بِتَأْيِيسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ أَمَرَهُ أَنْ يُصَارِحَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَعْدِلُ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ مُبَلِّغُهُ بِدُونِ هَوَادَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يَرْغَبُ فِي إِيمَانِهِمْ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَلَا يَتَنَازَلُ إِلَى مُشَاطَرَتِهِمْ فِي رَغَبَاتِهِمْ بِشَطْرِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَأَنَّ إِيمَانَهُمْ وَكُفْرَهُمْ مَوْكُولٌ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، لَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بِوَعْدِ الْإِيمَانِ يستنزلون النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم عَنْ بَعْضِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ.
والْحَقُّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ هَذَا الْحَقُّ. وَالتَّعْبِيرُ بِ رَبِّكُمْ لِلتَّذْكِيرِ بِوُجُوبِ تَوْحِيدِهِ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيُؤْمِنْ وَقَوْلِهِ: فَلْيَكْفُرْ لِلتَّسْوِيَةِ الْمُكَنَّى بِهَا عَنِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
وَقَدَّمَ الْإِيمَانَ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ مَرْغُوبٌ فِيهِ.
وَفَاعِلُ الْمَشِيئَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
وَفِعْلُ «يُؤْمِنْ، وَيَكْفُرْ» مُسْتَعْمَلَانِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ مَنْ شَاءَ أَنْ يُوقِعَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَلَوْ بِوَجْهِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى أَحَدِهِمَا الْمُتَلَبِّسِ بِهِ الْآنَ فَإِنَّ الْعَزْمَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ تَجْدِيدٌ لِإِيقَاعِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ إِيكَالِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَمَا يُفِيدُهُ مِنَ الْوَعِيدِ كِلَاهُمَا