وَجُمْلَةُ وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ لِإِفَادَةِ أَنَّ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ عِقَابٍ إِنَّمَا هُوَ عِقَابٌ دُنْيَوِيٌّ وَأَنَّ وَرَاءَهُ عِقَابَ الْآخِرَةِ.
وَفِيهِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِأَنَّ التَّعْرِيف فِي لِلْكافِرِينَ يَعُمُّ المخاطبين وَغَيرهم. ويومىء هَذَا إِلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى ذُنُوبِ الْكُفْرِ بَلْ هُوَ مَنُوطٌ بِالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَتَعَدِّي حُدُودِ الشَّرِيعَةِ. وَأَمَّا الْكُفْرُ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ فَقَدْ حَصَلَ فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا عِيسَى، وَأَمَّا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَمْ تَأْتِهِمْ رُسُلٌ وَلَكِنَّهُمْ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ أَشْعِيَاءَ، وَأَرْمِيَاءَ، وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ.
وَالْحَصِيرُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُحْصَرُ فِيهِ فَلَا يُسْتَطَاعُ الْخُرُوجُ مِنْهُ، فَهُوَ إِمَّا فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ عَلَى تَقْدِيرِ مُتَعَلِّقٍ، أَيْ مَحْصُور فِيهِ.
[9، 10]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَادَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى الْغَرَضِ الْأَهَمِّ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ تأييد
النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، وَإِيتَاؤُهُ الْآيَاتِ الَّتِي أَعْظَمُهَا آيَةُ الْقُرْآنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاء: 2] . وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَا أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْكُتُبِ لِلْهُدَى وَالتَّحْذِيرِ، وَمَا نالهم من جراء مُخَالَفَتِهِمْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَمِنْ عُدُولِهِمْ عَنْ سُنَنِ أَسْلَافِهِمْ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ. وَفِي ذَلِكَ فَائِدَةُ التَّحْذِيرِ مِنْ وُقُوعِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَهِيَ الْفَائِدَةُ الْعُظْمَى مِنْ ذِكْرِ قَصَصِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ فَائِدَةُ التَّارِيخِ.