الْمُشَاكَلَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُوقِبْتُمْ حَقِيقَةً لِأَنَّ مَا يَلْقَوْنَهُ مِنَ الْأَذَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَصَدُوا بِهِ عِقَابَهُمْ عَلَى مُفَارَقَةِ دِينِ قَوْمِهِمْ وَعَلَى شَتْمِ أَصْنَامِهِمْ وَتَسْفِيهِ آبَائِهِمْ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَعاقِبُوا لِلْوُجُوبِ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ فَإِنَّ عَدَمَ التَّجَاوُزِ فِي الْعُقُوبَةِ وَاجِبٌ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يُظْهِرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَيَجْعَلُهُمْ فِي قَبْضَتِهِمْ، فَلَعَلَّ بَعْضَ الَّذِينَ فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يَبْعَثُهُ الْحَنَقُ عَلَى الْإِفْرَاطِ فِي الْعِقَابِ. فَهِيَ نَاظِرَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا [سُورَة النَّحْل: 110] .
وَرَغَّبَهُمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، أَيْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَبِالْعَفْوِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ أَجْلَبُ لِقُلُوبِ الْأَعْدَاءِ، فَوُصِفَ بِأَنَّهُ خَيْرٌ، أَيْ خَيْرٌ مِنَ الْأَخْذِ بِالْعُقُوبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [سُورَة فصّلت:
34] ، وَقَوْلُهُ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [سُورَة الشورى:
40] .
وَضَمِيرُ الْغَائِبِ عَائِدٌ إِلَى الصَّبْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ صَبَرْتُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [سُورَة الْمَائِدَة: 8] .
وَأَكَّدَ كَوْنَ الصَّبْرِ خَيْرًا- بِلَامِ الْقَسَمِ- زِيَادَةً فِي الْحَثِّ عَلَيْهِ.
وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالصَّابِرِينَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ التَّنْوِيهِ بِصِفَةِ الصَّابِرِينَ، أَيِ الصَّبْرُ خَبَرٌ لجنس الصابرين.
[127]
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
خُصَّ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَقَامَهُ أَعْلَى، فَهُوَ بِالْتِزَامِ الصَّبْرِ أَوْلَى، أَخْذًا بِالْعَزِيمَةِ بَعْدَ أَنْ رَخَّصَ لَهُمْ فِي الْمُعَاقَبَةِ.