الْعَرَبُ الْحَلْبَ عَلَى عَصِيرِ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ، قَالَ حَسَّانٌ يَذْكُرُ الْخَمْرَ الْمَمْزُوجَةَ وَالْخَالِصَةَ:
كِلْتَاهُمَا حَلَبَ الْعَصِيرَ فَعَاطِنِي ... بِزُجَاجَةٍ أَرْخَاهُمَا لِلْمَفْصِلِ
وَيُشِيرُ إِلَى كَوْنِهِمَا عِبْرَتَيْنِ مِنْ نَوْعٍ مُتَقَارِبٍ جَعْلُ التَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً عَقِبَ ذِكْرِ السَّقْيَيْنِ دُونَ أَنْ يُذَيِّلَ سَقْيَ الْأَلْبَانِ بِكَوْنِهِ آيَةً، فَالْعِبْرَةُ فِي خلق تِلْكَ الثِّمَارِ صَالِحَةً لِلْعَصْرِ وَالِاخْتِمَارِ، وَمُشْتَمِلَةً عَلَى مَنَافِعَ لِلنَّاسِ وَلَذَّاتٍ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. فَهَذَا مُرْتَبِطٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِبْرَةِ بِخَلْقِ النَّبَاتِ وَالثَّمَرَاتِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ [سُورَة النَّحْل: 11] الْآيَةَ.
وَجُمْلَةُ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَ (مِنْ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ ابْتِدَائِيَّةٌ، فَالْأُولَى مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ نُسْقِيكُمْ الْمُقَدَّرِ، وَالثَّانِيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ تَتَّخِذُونَ. وَلَيْسَتِ الثَّانِيَةُ تَبْعِيضِيَّةً، لِأَنَّ السَّكَرَ لَيْسَ بَعْضَ الثَّمَرَاتِ، فَمَعْنَى الِابْتِدَاءِ يَنْتَظِمُ كِلَا الْحَرْفَيْنِ.
وَالسَّكَرُ- بِفَتْحَتَيْنِ-: الشَّرَابُ الْمُسْكِرُ.
وَهَذَا امْتِنَانٌ بِمَا فِيهِ لَذَّتُهُمُ الْمَرْغُوبَةُ لَدَيْهِمْ وَالْمُتَفَشِّيَةُ فِيهِمْ (وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ) فَالِامْتِنَانُ حِينَئِذٍ بِمُبَاحٍ.
وَالرِّزْقُ: الطَّعَامُ، وَوُصِفَ بِ حَسَناً لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَذَلِكَ التَّمْرُ وَالْعِنَبُ
لِأَنَّهُمَا حُلْوَانِ لَذِيذَانِ يُؤْكَلَانِ رَطْبَيْنِ وَيَابِسَيْنِ قَابِلَانِ لِلِادِّخَارِ، وَمِنْ أَحْوَالِ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَنْ يَصِيرَ خَلًّا وَرُبًّا.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تَكْرِيرٌ لِتَعْدَادِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.