فَلَمَّا ذُكِرَتْ نِعْمَةُ تَيْسِيرِ السَّبِيلِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَقَاصِدِ الْجُثْمَانِيَّةِ ارْتَقَى إِلَى التَّذْكِيرِ بِسَبِيلِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقَاصِدِ الرَّوْحَانِيَّةِ وَهُوَ سَبِيلُ الْهُدَى، فَكَانَ تَعَهُّدُ اللَّهِ بِهَذِهِ السَّبِيلِ نِعْمَةً أَعْظَمَ مِنْ تَيْسِيرِ الْمَسَالِكِ الْجُثْمَانِيَّةِ لِأَنَّ سَبِيلَ الْهُدَى تَحْصُلُ بِهِ السَّعَادَة الأبدية. وَهَذِه السَّبِيلُ هِيَ مَوْهِبَةُ الْعَقْلِ الْإِنْسَانِيِّ الْفَارِقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ لِدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْحَقِّ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِمَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ، وَإِرْشَادُهُمْ إِلَى مَا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ أَوْ تَصِلُ إِلَيْهِ بِمَشَقَّةٍ عَلَى خَطَرٍ مِنَ التورّط فِي بيّنات الطَّرِيقِ.
فَالسَّبِيلُ: مَجَازٌ لِمَا يَأْتِيهِ النَّاسُ مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُوَصِّلَةٌ إِلَى دَارِ الثَّوَابِ أَوْ دَارِ الْعِقَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي [سُورَة يُوسُف: 108] . وَيَزِيدُ هَذِهِ الْمُنَاسبَة بَيَانا أَنه لِمَا شَرَحْتُ دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ نَاسَبَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ طَرِيقٌ لِلْهُدَى، وَإِزَالَةٌ لِلْعُذْرِ، وَأَنَّ مِنْ بَيْنِ الطُّرُقِ الَّتِي يَسْلُكُهَا النَّاسُ طَرِيقَ ضَلَالٍ وَجَوْرٍ.
وَقَدِ اسْتُعِيرَ لِتَعَهُّدِ اللَّهِ بِتَبْيِينِ سَبِيلِ الْهُدَى حَرْفُ عَلَى الْمُسْتَعَارُ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامُ الْعَرَبِ لِمَعْنَى التَّعَهُّدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى. شَبَّهَ الْتِزَامَ هَذَا الْبَيَانِ
وَالتَّعَهُّدِ بِهِ بِالْحَقِّ الْوَاجِب عَلَى الْمَحْقُوقِ بِهِ.
وَالْقَصْدُ: اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ. وَقَعَ هُنَا وَصْفًا لِلسَّبِيلِ مِنْ قَبِيلِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: طَرِيقٌ قَاصِدٌ، أَي مُسْتَقِيم، وَطَرِيق قصد، وَذَلِكَ أَقْوَى فِي الْوَصْفِ بِالِاسْتِقَامَةِ كَشَأْنِ الْوَصْفِ بِالْمَصَادِرِ، وَإِضَافَةُ قَصْدُ إِلَى السَّبِيلِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَهِيَ صِفَةٌ مُخَصِّصَةٌ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي السَّبِيلِ لِلْجِنْسِ. وَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مُضَافٍ لِأَنَّ الَّذِي تَعَهَّدَ اللَّهُ بِهِ هُوَ بَيَانُ السَّبِيلِ لَا ذَاتُ السَّبِيلِ.
وَضَمِيرُ وَمِنْها عَائِدٌ إِلَى السَّبِيلِ عَلَى اعْتِبَارِ جَوَازِ تَأْنِيثِهِ.
وجائِرٌ وَصْفٌ لِ السَّبِيلِ بِاعْتِبَارِ اسْتِعْمَالِهِ مُذَكَّرًا. أَيْ مِنْ جِنْسِ السَّبِيلِ الَّذِي مِنْهُ أَيْضًا قَصْدُ سَبِيلٍ جَائِرٍ غَيْرُ قَصْدٍ.
وَالْجَائِرُ: هُوَ الْحَائِدُ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ. وَكُنِّيَ بِهِ عَنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مُوصِّلٍ إِلَى الْمَقْصُودِ، أَيْ إِلَى الْخَيْرِ، وَهُوَ الْمُفْضِي إِلَى ضُرٍّ، فَهُوَ جَائِرٌ بِسَالِكِهِ. وَوَصْفُهُ