وَلَعَلَّ سَبَبَ إِطْلَاقِ فِعْلِ الْإِعْطَاءِ أَنَّ الْحَالِفَ كَانَ فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ يُعْطِي الْمَحْلُوفَ لَهُ شَيْئًا تَذْكِرَةً لِلْيَمِينِ مِثْلَ سَوْطِهِ أَوْ خَاتَمِهِ، أَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضَعُونَ عِنْدَ صَاحِبِ الْحَقِّ ضَمَانًا يَكُونُ رَهِينَةً عِنْدَهُ. وَكَانَتِ الْحمالَة طَريقَة للتوثق فَشَبَّهَ الْيَمِينَ بِالْحَمَالَةِ. وَأَثْبَتَ لَهُ الْإِعْطَاءَ وَالْأَخْذَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ ضِدُّ ذَلِكَ فِي إبِْطَال التَّوَثُّق يُقَالُ: رَدَّ عَلَيْهِ حِلْفَهُ.
وَالْمَوْثِقُ: أَصْلُهُ مصدر ميمي للتوثّق، أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ مَا بِهِ التَّوَثُّقُ، يَعْنِي الْيَمِينَ.
ومِنَ اللَّهِ صِفَةٌ لِ مَوْثِقاً، ومِنَ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ مَوْثِقًا صَادِرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَجْعَلُوا اللَّهَ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ فِيمَا وَعَدُوا بِهِ بِأَنْ يَحْلِفُوا بِاللَّهِ فَتَصِيرُ شَهَادَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَتَوَثُّقٍ صَادِرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا: لَكَ مِيثَاقُ اللَّهِ أَوْ عَهْدُ
اللَّهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يُضَافُ الْمِيثَاقُ وَالْعَهْدُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ كَأَنَّ الْحَالِفَ اسْتَوْدَعَ اللَّهَ مَا بِهِ التَّوَثُّقُ لِلْمَحْلُوفِ لَهُ.
وَجُمْلَةُ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَوْثِقاً. وَهُوَ حِكَايَةٌ لِقَوْلٍ يَقُولُهُ أَبْنَاؤُهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُمْ إِيقَاعُهُ حِكَايَةً بِالْمَعْنَى عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ لِأَنَّهُمْ لَوْ نَطَقُوا بِالْقَسَمِ لَقَالُوا: لَنَأْتِيَنَّكَ بِهِ، فَلَمَّا حَكَاهُ هُوَ رَكَّبَ الْحِكَايَةَ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ كَلَامُهُمْ وَبِالضَّمَائِرِ الْمُنَاسِبَةِ لِكَلَامِهِ بِخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: 117] ، وَإِنَّ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: قُلْ لَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا رَبَّكَ وَرَبَّهُمْ.
وَمَعْنَى يُحاطَ بِكُمْ يُحِيطُ بِكُمْ مُحِيطٌ وَالْإِحَاطَةُ: الْأَخْذُ بِأَسْرٍ أَوْ هَلَاكٍ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِمْ، وَأَصْلُهُ إِحَاطَةُ الْجَيْشِ فِي الْحَرْبِ، فَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْحَالَةِ الَّتِي لَا يُسْتَطَاعُ التَّغَلُّبُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [سُورَة يُونُس:
22] .