وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ «فِي الزَّوَايَا خَبَايَا وَفِي الرِّجَالِ بَقَايَا» . فَمِنْ هُنَالِكَ أُطْلِقَتْ عَلَى الْفَضْلِ وَالْخَيْرِ فِي صِفَاتِ النَّاسِ فَيُقَالُ: فِي فُلَانٍ بَقِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى هُنَا: أُولُو فَضْلٍ وَدِينٍ وَعِلْمٍ
بِالشَّرِيعَةِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ الرُّسُلَ وَلَكِنْ أُرِيدَ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَحَمَلَةُ الشَّرَائِعِ يَنْهَوْنَ قَوْمَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ.
وَالْفساد: الْمعاصِي وَاخْتِلَاف الْأَحْوَالِ، فَنَهْيُهُمْ يَرْدَعُهُمْ عَنِ الِاسْتِهْتَارِ فِي الْمَعَاصِي فَتَصْلُحُ أَحْوَالُهُمْ فَلَا يَحِقُّ عَلَيْهِمُ الْوَهْنُ وَالِانْحِلَالُ كَمَا حَلَّ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ عَدِمُوا مَنْ يَنْهَاهُمْ. وَفِي هَذَا تنويه بأصحاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ مِنْ قُرَيْشٍ يَدعُونَهُمْ إِلَى الْإِيمَان حَتَّى آمَنَ كُلُّهُمْ، وَأُولُو بَقِيَّةٍ بَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ اخْتَلَطُوا بِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالِاسْتِقَامَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ وَيُعَلِّمُونَ الدِّينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمرَان: 110] .
وَفِي قَوْلِهِ: مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْبِشَارَةِ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُونَ كَذَلِك ممّا يومىء إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِكُمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ جَمَّازٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ «بِقْيَةٍ» - بِكَسْرِ الْبَاءِ- الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ- فَهِيَ لُغَةٌ وَلَمْ يَذْكُرْهَا أَصْحَابُ كُتُبِ اللُّغَةِ وَلَعَلَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْهَيْئَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَخَيُّلِ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ.
وإِلَّا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ أُولُوا بَقِيَّةٍ وَهُوَ يَسْتَتْبِعُ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْقُرُونِ إِذِ الْقُرُونُ الَّذِينَ فِيهِمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ لَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي حُكْمِ الْقُرُونِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْضِيضِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقُرُونِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أُولُو بَقِيَّةٍ فَهْمِ الَّذِينَ يَنْعَى عَلَيْهِمْ فُقْدَانُ ذَلِكَ الصِّنْفِ مِنْهُمْ. وَهَؤُلَاءِ الْقُرُونُ لَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ يُسْتَثْنَى إِذْ كُلُّهُمْ غَيْرُ نَاجِينَ مِنْ عَوَاقِبِ الْفَسَادِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْنَى التَّحْضِيضِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرُونِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَدِمُوا أُولِي بَقِيَّةٍ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْقُرُونِ فِيهِمْ أُولُو بَقِيَّةٍ كَانَ الْمُوَقَّعُ لِلِاسْتِدْرَاكِ