وَ (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) صِفَةٌ لِـ عَذابَ الْخِزْيِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي يَحِلُّ بِالْأُمَمِ الْكَافِرَةِ هُوَ عُقَابٌ فِي الدُّنْيَا وَبَعْدَهُ عِقَابٌ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي لَمْ تُعَذَّبْ فِي الدُّنْيَا قَدِ ادُّخِرَ لَهَا عَذَابُ الْآخِرَةِ.
وَالتَّمْتِيعُ: الْإِمْهَالُ.
وَإِبْهَامُ حِينٍ لِأَنَّهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ آجَالِ آحَادِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّمْتِيعُ بِالْحَيَاةِ لَا بِكَشْفِ الْعَذَابِ، لِأَنَّهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ نَاجُونَ مِنَ الْعَذَابِ إِذْ كَانُوا قَدْ آمَنُوا وَأَخْلَصُوا.
وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي نَجَاةِ قَوْمِ يُونُسَ تَتَمَثَّلُ فِي أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ يُونُسَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي ابْتِدَاءِ دَعْوَتِهِ لَمْ يَكُنْ نَاشِئًا عَنْ تَصْمِيمٍ عَلَى الْكُفْرِ وَاسْتِخْفَافٍ بِعَظَمَةِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ شَكًّا فِي صِدْقِ يُونُسَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى بَقِيَّةٍ مِنْ شَرِيعَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَإِنَّمَا حَرَّفُوا وَحَادُوا عَنْ طَرِيقِ الْإِيمَانِ مِمَّا يَعْلَمُهُ اللَّهُ، فَإِنَّ فِي نَيْنَوَى كَثِيرًا مِنْ أَسْرَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا فِي أَسْرِ الْآشُورِيِّينَ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، فَلَمَّا أَوْعَدَهُمْ يُونُسُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْعَذَابِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَرَأَوْا أَمَارَاتِهِ بَعْدَ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا اهْتَدَوْا وَآمَنُوا إِيمَانًا خَالِصًا.
وَثَانِيهُمَا: أَنَّ يُونُسَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا صَدَرَتْ مِنْهُ فَلْتَةُ الْمُغَاضَبَةِ كَانَ قَدْ خَلَطَ فِي دَعْوَتِهِ شَيْئًا مِنْ حَظِّ النَّفْسِ وَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةِ الدِّينِ، فَقَدَّرَ اللَّهُ إِيمَانَ قَوْمِهِ لِعِلْمِهِ كَمَالَ الْإِيمَانِ وَالصَّبْرِ وَالتَّسْلِيمِ لِلَّهِ، وَهَذَا عَتَّابٌ وَتَأْدِيبٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمَّةَ مِنْ تَوَهُّمِ أَنَّ مَا جَرَى لِيُونُسَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْمُغَاضَبَةِ وَالْمُعَاقَبَةِ يُنْقِصُ مِنْ قَدْرِهِ
فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى»
يَعْنِي فِي صِحَّةِ الرِّسَالَةِ لَا فِي التَّفَاضُلِ فِيهَا.
وَقَدْ كَانَ حَالُ أَهْلِ مَكَّةَ كَحَالِ قَوْمِ يُونُسَ إِذْ بَادَرُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ جَيْشِ الْفَتْحِ مَكَّةَ وَقَبْلَ أَنْ يَقَعُوا فِي قَبْضَةِ الْأَسْرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ