وَمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ شَرْعِ اللَّهِ فَلَمْ يعملوا بِمَا جاؤوهم بِهِ، وَأَعْظَمُ ذَلِكَ تَكْذِيبُهُمْ بِمُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا قَبْل مَبْعَثِهِ مُقِرِّينَ بِنَبِيءٍ يَأْتِي، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ اخْتَلَفُوا فِي تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَبَنُو قَيْنُقَاعَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ هُوَ الْقُرْآنَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ كَمَعْنَى قَوْلِهِ:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمرَان: 19] ، وَقَوْلِهِ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: 4] فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ قَبْلَ هَذَا قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [الْبَيِّنَة:
1، 2] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الْبَقَرَة: 89] .
وَهَذَا الْمَحْمَلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِحَرْفِ (حَتَّى) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ.
وَتَعْقِيبُ فَمَا اخْتَلَفُوا بِالْغَايَةِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُنْتَهَى حَالَةِ الشُّكْرِ، أَيْ فَبَقُوا
فِي ذَلِكَ الْمُبَوَّأِ، وَفِي تِلْكَ النِّعْمَةِ، حَتَّى اخْتَلَفُوا فَسُلِبَتْ نِعْمَتُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَلَبَهُمْ أَوْطَانَهُمْ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَذْيِيلٌ وَتَوَعُّدٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: أَنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ مَضَوْا بِمَا عَمِلُوا وَأَنَّ أَمْرَهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ كَقَوْلِهِ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [الْبَقَرَة: 134] ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عَلَى الْحَاضِرِينَ الْيَوْمَ أَنْ يُفَكِّرُوا فِي وَسَائِلِ الْخَلَاصِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْوُقُوعِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ يَوْم الْقِيَامَة.
و (بَين) ظَرْفُ مَكَانٍ لِلْقَضَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ (يَقْضِي) فَفِعْلُ الْقَضَاءِ كَأَنَّهُ مُتَخَلِّلٌ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِتَبْيِينِ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ.