بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
بَلْ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ لِبَيَانِ كُنْهِ تَكْذِيبِهِمْ، وَأَنَّ حَالَهُمْ فِي الْمُبَادَرَةِ بِالتَّكْذِيبِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ أَعْجَبُ مِنْ أَصْلِ التَّكْذِيبِ إِذْ أَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى تَكْذِيبِهِ دُونَ نَظَرٍ فِي أَدِلَّةِ صِحَّتِهِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ [يُونُس: 37] .
وَالتَّكْذِيبُ: النِّسْبَةُ إِلَى الْكَذِبِ، أَوِ الْوَصْفُ بِالْكَذِبِ سَوَاء كَانَ من اعْتِقَادٍ أَمْ لَمْ يَكُنْهُ.
وَاخْتِيَارُ التَّعْبِيرِ عَنِ الْقُرْآنِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنْ عَجِيبِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُنَافِيَةِ لِتَسْلِيطِ التَّكْذِيبِ، فَهُمْ قَدْ كَذَّبُوا قَبْلَ أَنْ يَخْتَبِرُوا، وَهَذَا مِنْ شَأْنِ الْحَمَاقَةِ وَالْجَهَالَةِ.
وَالْإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ: الْكَوْنُ حَوْلَهُ كَالْحَائِطِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [يُونُس: 22] . وَيُكَنَّى بِهَا عَنِ التَّمَكُّنِ مِنَ الشَّيْءِ بِحَيْثُ لَا يَفُوتُ مِنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه: 110] وَقَوْلُهُ: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ [الْجِنّ: 28] أَيْ عَلِمَهُ، فَمَضَى بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ بِمَا لَمْ يُتْقِنُوا عِلْمَهُ.
وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ. وَشَأْنُهَا مَعَ فِعْلِ الْإِحَاطَةِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْمُحَاطِ بِهِ وَهُوَ الْمَعْلُومُ، وَهُوَ هُنَا الْقُرْآنُ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْمًا أَوْ بِمَا لَمْ يُحِطْ عِلْمُهُمْ بِهِ إِلَى بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ لِلْمُبَالَغَةِ إِذْ جُعِلَ الْعِلْمُ مَعْلُومًا. فَأَصْلُ الْعِبَارَةِ قَبْلَ النَّفْيِ أَحَاطُوا بِعِلْمِهِ أَيْ أَتْقَنُوا عِلْمَهُ أَشَدَّ إِتْقَانٍ فَلَمَّا نُفِيَ صَارَ لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، أَيْ وَكَانَ الْحَقُّ أَنْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ لِأَنَّ تَوَفُّرَ أَدِلَّةِ صِدْقِهِ يَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةِ تَأَمُّلٍ وَتَدْقِيقِ نَظَرٍ بِحَيْثُ يَتَعَيَّنُ عَلَى النَّاظِرِ عِلْمُ أَدِلَّتِهِ ثُمَّ إِعَادَةُ التَّأَمُّلِ فِيهَا وَتَسْلِيطُ عِلْمٍ عَلَى عِلْمٍ وَنَظَرٍ عَلَى نَظَرٍ بِحَيْثُ تَحْصُلُ الْإِحَاطَةُ بِالْعِلْمِ. وَفِي هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي فَرْطِ احْتِيَاجِهِ إِلَى صِدْقِ التَّأَمُّلِ، وَمُبَالَغَةٌ فِي تَجْهِيلِ الَّذِينَ بَادَرُوا إِلَى التَّكْذِيبِ مِنْ دُونِ تَأَمُّلٍ فِي شَيْءٍ حَقِيقٍ بِالتَّأَمُّلِ بَعْدَ التَّأَمُّلِ.