وَالْمَوْصُولُ مُرَادٌ بِهِ خُصُوصُ الْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. فَإِنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ لَا يَقَعُ إِلَّا لِلْكَافِرِينَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَظَافِرَةُ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ.
وَجُمْلَةُ: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها خَبَرٌ عَنْ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ. وَتَنْكِيرُ (سَيِّئَةٍ) لِلْعُمُومِ، أَيْ جَزَاءُ كُلِّ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَالْعُمُومُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْمَقَامِ وَهُوَ مَقَامُ عُمُومِ الْمُبْتَدَأِ. كَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ:
يَا أَهْلَ ذَا الْمَغْنَى وُقِيتُمُ ضُرًّا أَيْ كُلَّ ضُرٍّ. وَذَلِكَ الْعُمُومُ مُغْنٍ عَنِ الرَّابِطِ بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْمُبْتَدَأِ، أَوْ يُقَدَّرُ مَجْرُورٌ، أَيْ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِنْهُمْ، كَمَا قُدِّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ [الْبَقَرَة: 196] أَيْ فَعَلَيْهِ.
وَاقْتَصَرَ عَلَى الذِّلَّةِ لَهُمْ دُونَ زِيَادَةِ وَيَرْهَقُهُمْ قَتَرٌ، لِأَنَّهُ سَيَجِيءُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً.
وَجُمْلَةُ: مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ خَبَرٌ ثَانٍ، أَوْ حَالٌ مِنَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ. وَهُوَ تَهْدِيدٌ وَتَأْيِيسٌ.
وَالْعَاصِمُ: الْمَانِعُ وَالْحَافِظُ. وَمَعْنَى مِنَ اللَّهِ مِنِ انْتِقَامِهِ وَجَزَائِهِ. وَهَذَا مِنْ تَعْلِيقِ الْفِعْلِ بِاسْمِ الذَّاتِ، وَالْمُرَادُ بَعْضُ أَحْوَالِ الذَّاتِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ مِثْلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] .
وَجُمْلَةُ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَخْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ بَيَانَ تَمْثِيلٍ، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَتَرْهَقُهُمْ.
وأُغْشِيَتْ مُعَدَّى غَشِيَ إِذَا أَحَاطَ وَغَطَّا، فَصَارَ بِالْهَمْزَةِ مُعَدًّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ كَسَا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فِي الْأَعْرَافِ [54] ، وَقَوْلِهِ: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ فِي الْأَنْفَالِ