وَانْتَصَبَ كُلَّ مَرْصَدٍ إِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِتَضْمِينِ اقْعُدُوا مَعْنَى (الْزَمُوا) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَاف: 16] ، وَإِمَّا عَلَى التَّشْبِيهِ بِالظَّرْفِ لِأَنَّهُ مِنْ حَقِّ فِعْلِ الْقُعُودِ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ بِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ فَشُبِّهَ بِالظَّرْفِ وَحُذِفَتْ (فِي) لِلتَّوَسُّعِ.
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ (كُلَّ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [25] .
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ.
وَالتَّوْبَةُ عَنِ الشِّرْكِ هِيَ الْإِيمَانُ، أَيْ فَإِنْ آمَنُوا إِيمَانًا صَادِقًا، بِأَنْ أَقَامُوا الصَّلَاةَ الدَّالَّةَ إِقَامَتُهَا عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي إِيمَانِهِ، وَبِأَنْ آتَوُا الزَّكَاةَ الدَّالَّ إِيتَاؤُهَا عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ حَقًّا، لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ لِلْمُسْلِمِينَ أَمَارَةُ صِدْقِ النِّيَّةِ فِيمَا بُذِلَ فِيهِ فَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ شَرْطٌ فِي كَفِّ الْقِتَالِ عَنْهُمْ إِذَا آمَنُوا، وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ جُزْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ.
وَحَقِيقَةُ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ اتْرُكُوا طَرِيقَهُمُ الَّذِي يَمُرُّونَ بِهِ، أَيِ اتْرُكُوا لَهُمْ كُلَّ طَرِيقٍ أُمِرْتُمْ بِرَصْدِهِمْ فِيهِ أَيِ اتْرُكُوهُمْ يَسِيرُونَ مُجْتَازِينَ أَوْ قَادِمِينَ عَلَيْكُمْ، إِذْ لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ فِي الْحَالَتَيْنِ، فَإِنَّهُمْ صَارُوا إِخْوَانَكُمْ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ [التَّوْبَة: 11] .
وَهَذَا الْمُرَكَّبُ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا تَمْثِيلًا فِي عَدَمِ الْإِضْرَارِ بِهِمْ وَمُتَارَكَتِهِمْ، يُقَالُ: خَلِّ سَبِيلِي، أَيْ دَعْنِي وَشَأْنِي، كَمَا قَالَ جَرِيرٌ:
خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يَبْنِي الْمَنَارَ بِهِ ... وَأَبْرِزْ بِبَرْزَةَ حَيْثُ اضْطَرَّكَ الْقَدَرُ