وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ الْمَنْفِيُّ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا، أَيْ: لَوْلَا قَدَرٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ مِنْ لُطْفِهِ بِكُمْ فَصَرَفَ بِلُطْفِهِ وَعِنَايَتِهِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ عَذَابًا كَانَ مِنْ شَأْنِ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ أَنْ يُسَبِّبَهُ لَهُمْ وَيُوقِعَهُمْ فِيهِ. وَهَذَا الْعَذَابُ عَذَابٌ دُنْيَوِيٌّ، لِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ لَا يَتَرَتَّبُ إِلَّا عَلَى مُخَالَفَةِ شَرْعٍ سَابِقٍ، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنَ الشَّرْعِ مَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ أَخْذَ الْفِدَاءِ، كَيْفَ وَقَدْ خُيِّرُوا فِيهِ لَمَّا اسْتُشِيرُوا، وَهُوَ أَيْضًا عَذَابٌ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَجُرَّهُ عَمَلُهُمْ جَرَّ الْأَسْبَابِ لِمُسَبَّبَاتِهَا، وَلَيْسَ عَذَابَ غَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ إِلَّا عَلَى مَعَاصٍ عَظِيمَةٍ، فَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ أَنَّ أُولَئِكَ الْأَسْرَى الَّذِينَ فَادَوْهُمْ كَانُوا صَنَادِيدَ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ تَخَلَّصُوا مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ يَحْمِلُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَنَقًا فَكَانَ مِنْ مُعْتَادِ أَمْثَالِهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنْ يَسْعَوْا فِي قَوْمِهِمْ إِلَى أَخْذِ ثَأْرِ قَتْلَاهُمْ وَاسْتِرْدَادِ أَمْوَالِهِمْ فَلَوْ فَعَلُوا لَكَانَتْ دَائِرَةً عَظِيمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ فَصَرَفَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ مَحَبَّةِ أَخْذِ الثَّأْرِ، وَأَلْهَاهُمْ بِمَا شَغَلَهُمْ عَنْ مُعَاوَدَةِ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ الصَّرْفُ هُوَ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي سَبَقَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَوْدَةِ لِلْفِدَاءِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ تَشْرِيعًا لِلْمُسْتَقْبَلِ كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا.
[69]
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
الْفَاءُ تُؤْذِنُ بِتَفْرِيعِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَفِي هَذَا التَّفْرِيعِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الْأَنْفَال: 68] إِلَخْ ... أَيْ لَوْلَا مَا سَبَقَ مِنْ حِلِّ الْغَنَائِمِ لَكُمْ لَمَسَّكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَإِذْ قَدْ سَبَقَ الْحِلُّ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْكُمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَالِ الْفِدَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى [الْأَنْفَال: 67] الْآيَةَ، أَمْسَكُوا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِمَالِ الْفِدَاءِ،
فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَدْ سُمِّيَ مَالُ الْفِدَاءِ غَنِيمَةً تَسْمِيَةً بِالِاسْمِ اللُّغَوِيِّ دُونَ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ هِيَ مَا افْتَكَّهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ بِالْإِيجَافِ عَلَيْهِمْ.