وَإِنَّمَا أَضَافَ الطُّغْيَانَ لِضَمِيرِ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يَقُلْ فِي الطُّغْيَانِ بِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: [202] وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ إِشَارَةً إِلَى تَفْظِيعِ شَأْنِ هَذَا الطُّغْيَانِ وَغَرَابَتِهِ فِي بَابِهِ وَأَنَّهُمُ اخْتَصُّوا بِهِ حَتَّى صَارَ يُعْرَفُ بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِمْ. والظرف مُتَعَلق بيمدهم ويَعْمَهُونَ جملَة حَالية.
[16]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى.
الْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ [الْبَقَرَة: 8] وَمَا عُطِفَ عَلَى صِلَتِهِ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَجِيءَ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْجمع لِأَن مَا صدق «مَنْ» هُوَ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ، وَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِتُفِيدَ تَقْرِيرَ مَعْنَى: «وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْبَقَرَة: 15] فَمَضْمُونُهَا بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيدِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي الْفَصْلَ، وَلِتُفِيدَ تَعْلِيلَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فَتَكُونُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِسَائِلٍ عَنِ الْعِلَّةِ، وَهِيَ أَيْضًا فَذْلَكَةٌ لِلْجُمَلِ السَّابِقَةِ الشَّارِحَةِ لِأَحْوَالِهِمْ وَشَأْنُ الْفَذْلَكَةِ عَدَمُ الْعَطْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [الْبَقَرَة: 196] ، وَكُلُّ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ مُقْتَضٍ لِعَدَمِ الْعَطْفِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ مُوجِبَاتٍ لِلْفَصْلِ.
وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ مُقَابِلُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] وَمُقَابِلُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْبَقَرَة: 7] الْآيَةَ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا غَيْرُ مُشَارٍ بِهِ إِلَى ذَوَاتٍ وَلَكِنْ إِلَى صِنْفٍ اجْتَمَعَتْ فِيهِمُ الصِّفَاتُ الْمَاضِيَةُ فَانْكَشَفَتْ أَحْوَالُهُمْ حَتَّى صَارُوا كَالْحَاضِرِينَ تُجَاهَ السَّامِعِ بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهِمْ وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ كَثِيرُ الْوُرُودِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْإِشَارَةِ إِشْعَارٌ بِبُعْدٍ أَوْ قُرْبٍ حَتَّى تُفِيدَ تَحْقِيرًا نَاشِئًا عَنِ الْبُعْدِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ الْغَالِبَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَلَا عُدُولَ فِيهَا حَتَّى يَكُونَ الْعُدُولُ لِمَقْصِدٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَة: 2] وَلِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُنَا غَيْرُ مَحْسُوسٍ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مَرْتَبَةٌ مُعَيَّنَةٌ فَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنْ لَفْظِهَا لِقَصْدِ مَعْنًى ثَانٍ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ مَعَ قُرْبِ الْكِتَابِ لِلنَّاطِقِ بِآيَاتِهِ عُدُولٌ عَنْ إِشَارَةِ الْقَرِيبِ إِلَى الْبَعِيدِ فَأَفَادَ التَّعْظِيمَ. وَعَكْسُ هَذَا قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
مَتَّى يَأْتِ هَذَا الْمَوْتُ لَا يُلْفِ حَاجَةً ... لِنَفْسِيَ إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا
فَإِنَّ الْمَوْتَ بَعِيدٌ عَنْهُ فَحَقُّهُ أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْبَعِيدِ، وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى إِشَارَةِ الْقَرِيبِ لِإِظْهَارِ اسْتِخْفَافِهِ بِهِ.