بِمَعْنَى أَجَزْتُهُ، كَمَا قَالُوا: ذَهَبْتَ بِهِ بِمَعْنَى أَذْهَبْتَهُ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ قَدَّرْنَا لَهُمْ جَوَازَهُ وَيَسَّرْنَاهُ لَهُمْ.
وَالْبَحْرُ هُوَ بَحْرُ الْقُلْزُمِ- الْمَعْرُوفُ الْيَوْمَ بِالْبَحْرِ الْأَحْمَرِ- وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْيَمِّ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ الْحُضُورِيِّ، أَيِ الْبَحْرَ الْمَذْكُورَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَعْرِفَةِ إِذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً، وَاخْتِلَافُ اللَّفْظِ تَفَنُّنٌ، وتجنبا لِلْإِعَادَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَطَعُوا الْبَحْرَ وَخَرَجُوا عَلَى شاطئه الشَّرْقِي.
وفَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ مَعْنَاهُ أَتَوْا قَوْمًا، وَلما ضمن فَأَتَوْا مَعْنَى مَرُّوا عُدِّيَ بِعَلَى، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا الْإِقَامَةَ فِي الْقَوْمِ، وَلَكِنَّهُمْ أَلْفَوْهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ.
وَالْقَوْمُ هُمُ الْكَنْعَانِيُّونَ وَيُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ الْعَرَبِ الْعَمَالِقَةُ وَيُعْرَفُونَ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْمُؤَرِّخِينَ بِالْفِنِيقِيِّينَ.
وَالْأَصْنَامُ كَانَتْ صُوَرَ الْبَقَرِ، وَقَدْ كَانَ الْبَقَرُ يُعْبَدُ عِنْدَ الكنعانيين، أَي الفنيقيين بَاسِمِ (بَعْلَ) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [51] .
وَالْعُكُوفُ: الْمُلَازَمَةُ بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [187] ، وَتَعْدِيَةُ الْعُكُوفِ بِحَرْفِ (عَلَى) لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى النُّزُولِ وَتَمَكُّنِهِ كَقَوْلِهِ: قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ [طه: 91] .
وقريء يَعْكُفُونَ- بِضَمِّ الْكَافِ- لِلْجُمْهُورِ، وَبِكَسْرِهَا لِحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، وَخَلَفٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ فِي مُضَارِعِ عَكَفَ.
وَاخْتِيرَ طَرِيقُ التَّنْكِيرِ فِي أَصْنَامٍ وَوَصْفُهُ بِأَنَّهَا لَهُمْ، أَيِ الْقَوْمِ دُونَ طَرِيق الْإِضَافَة ليتوسل بِالتَّنْكِيرِ إِلَى إِرَادَةِ تَحْقِيرِ الْأَصْنَامِ وَأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ، لِأَنَّ التَّنْكِيرَ يَسْتَلْزِمُ خَفَاءَ الْمَعْرِفَةِ.
وَإِنَّمَا وُصِفَتِ الْأَصْنَامُ بِأَنَّهَا لَهُمْ وَلَمْ يُقْتَصَرْ عَلَى قَوْلِهِ: أَصْنامٍ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ التُّونِسِيُّ: «عَادَتُهُمْ يُجِيبُونَ بِأَنَّهُ زِيَادَةُ تَشْنِيعٍ بِهِمْ وَتَنْبِيهٌ عَلَى جَهْلِهِمْ وَغَوَايَتِهِمْ فِي أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَا هُوَ مِلْكٌ لَهُمْ فيجعلون مملوكهم إِلَّا ههم» .