الْكَافِرِينَ مِنْ عَوْدِ شُعَيْبٍ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ، بِخِلَافِ حَالِهِمُ الْأُولَى قَبْلَ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ يُوصَفُونَ بِالْكُفْرِ لَا بِالِافْتِرَاءِ إِذْ لَمْ يَظْهَرُ لَهُمْ وَجْهُ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها أَيْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْصِدُهُ الْعَاقِلُ فَيَلْقِي نَفْسَهُ فِي الضَّلَالِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْعَذَابِ.
وَانْتِصَابُ كَذِباً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ تَأْكِيدًا ل افْتَرَيْنا بِنَا هُوَ مَا سوله أَوْ أَعَمُّ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [103] .
وَقَدْ رَتَّبَ عَلَى مُقَدِّمَةِ لُزُومِ الِافْتِرَاءِ نَتِيجَةَ تَأْيِيسِ قَوْمِهِ مِنْ أَنْ يَعُودَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ بِقَوْلِهِ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها فَنَفَى الْعَوْدَ نَفْيًا مُؤَكَّدًا بِلَامِ الْجُحُودِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ تَأْكِيدِ النَّفْيِ بِلَامِ الْجُحُودِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ إِلَخْ
فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [79] .
وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ وَتَفْوِيضُ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ، أَيْ:
إِلَّا أَنْ يُقَدِّرَ اللَّهُ لَنَا الْعَوْدَ فِي مِلَّتِكُمْ فَإِنَّهُ لَا يسْأَل عمّا يفعل، فَأَمَّا عَوْدُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكُفْرِ فَمُمْكِنٌ فِي الْعَقْلِ حُصُولُهُ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ اسْتِحَالَتُهُ، وَالِارْتِدَادُ وَقَعَ فِي طَوَائِفَ مِنْ أُمَمٍ.
وَأَمَّا ارْتِدَادُ شُعَيْبٍ بَعْدَ النُّبُوءَةِ فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ شَرْعًا لِعِصْمَةِ اللَّهِ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ سَلَبَ الْعِصْمَةَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ لَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُحَالٌ عَقْلًا، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ شَرْعًا، وَقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الشِّرْكِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ فَعِصْمَتُهُمْ مِنْهُ بَعْدَ النُّبُوءَةِ بِالْأَوْلَى، قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ.
وَفِي قَوْلِ شُعَيْبٍ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا تَقْيِيدُ عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ تَقْيِيدَ الدَّوَامِ عَلَى الْإِيمَانِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ عَدَمَ الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ مُسَاوٍ لِلثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَهُوَ تَقْيِيدٌ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّأَدُّبُ وَتَفْوِيضُ الْعِلْمِ بِالْمُسْتَقْبَلِ إِلَى اللَّهِ، وَالْكِنَايَةُ عَنْ سُؤَالِ الدَّوَامِ عَلَى الْإِيمَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا [آل عمرَان: 8] .
وَمِنْ هُنَا يُسْتَدَلُّ لِقَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ وَجَمَاعَةٍ عَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ الْفَقِيهُ