جُمْلَةِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الْأَعْرَاف: 54] وَجُمْلَةِ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ [الْأَعْرَاف: 57] جَرَى هَذَا الِاعْتِرَاضُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي انتهاز فرص تهنّؤ الْقُلُوبِ لِلذِّكْرَى. وَالْخِطَابُ بِ ادْعُوا خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ لِأَدَبِ دُعَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ، وَلَيْسَ الْمُشْرِكُونَ بِمُتَهَيِّئِينَ لِمِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ، وَهُوَ تَقْرِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِدْنَاءٌ لَهُمْ وَتَنْبِيهٌ عَلَى رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ وَمَحَبَّتِهِ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُهُ بعده:
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَاف: 56] . وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ.
وَ (الدُّعَاءُ) حَقِيقَتُهُ النِّدَاءُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى النِّدَاءِ لِطَلَبٍ مُهِمٍّ، وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْعِبَادَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ بِالْقَوْلِ أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ، كَمَا فِي الرُّكُوعِ والسّجود، مَعَ مقارنتها لِلْأَقْوَالِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُنَا الطَّلَبُ وَالتَّوَجُّهُ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَبَدُوا اللَّهَ وَأَفْرَدُوهُ بِالْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا الْمُهِمُّ إِشْعَارُهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِمْ وَإِدْنَاءِ مَقَامِهِمْ مِنْهَا.
وَجِيءَ لِتَعْرِيفِ الرَّبِّ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ دُونَ ضَمِيرِ الْغَائِبِ، مَعَ وُجُودِ مُعَادٍ قَرِيبٍ فِي قَوْلِهِ: تَبارَكَ اللَّهُ [الْأَعْرَاف: 54] وَدُونَ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّ فِي لَفْظِ الرَّبِّ إِشْعَارًا بِتَقْرِيبِ الْمُؤْمِنِينَ بِصِلَةِ الْمَرْبُوبِيَّةِ، وَلِيَتَوَسَّلَ بِإِضَافَةِ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ إِلَى تَشْرِيفِ الْمُؤْمِنِينَ وَعِنَايَةِ الرَّبِّ بِهِمْ كَقَوْلِهِ: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ [آل عمرَان: 150] .
وَالتَّضَرُّعُ: إِظْهَارُ التَّذَلُّلِ بِهَيْئَةٍ خَاصَّةٍ، وَيُطْلَقُ التَّضَرُّعُ عَلَى الْجَهْرِ بِالدُّعَاءِ لِأَنَّ الْجَهْرَ مِنْ هَيْئَةِ التَّضَرُّعِ، لِأَنَّهُ تَذَلُّلٌ جَهْرِيٌّ، وَقَدْ فُسِّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ [63] :
تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً بِالْجَهْرِ بِالدُّعَاءِ، وَهُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِمُقَابَلَتِهِ بِالْخُفْيَةِ،
فَيَكُونُ أُسْلُوبُهُ وَفْقًا لِأُسْلُوبِ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ ادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً [الْأَعْرَاف: 56] وَتَكُونُ، الْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ بِمَنْزِلَةِ (أَوْ) وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا فِيهِ أَجْوَدُ مِنْ (أَوْ) . وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ أَبْقَى التَّضَرُّعَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ التَّذَلُّلُ، فَيَكُونُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْحَالِ، أَيْ مُتَذَلِّلِينَ،