فَمَوْقِعُ هَذِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ [الْأَنْعَام: 164] تَذْكِيرٌ بِالنِّعْمَةِ، بَعْدَ الْإِنْذَارِ بِسَلْبِهَا، وَتَحْرِيضٌ عَلَى تَدَارُكِ مَا فَاتَ، وَهُوَ يَفْتَحُ أَعْيُنَهُمْ لِلنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمَمِ وَانْقِرَاضِهَا وَبَقَائِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَتَكُونَ الْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، أَيْ جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأُمَمِ الَّتِي مَلَكَتِ الْأَرْضَ فَأَنْتُمْ خَلَائِفُ لِلْأَرْضِ، فَتكون بِشَارَة للأمّة بِأَنَّهَا آخِرُ الْأُمَمِ الْمَجْعُولَةِ مِنَ اللَّهِ لِتَعْمِيرِ الْأَرْضِ. وَالْمُرَادُ:
الْأُمَمُ ذَوَاتُ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ تَذْكِيرٌ بِعَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ لِاسْتِدْعَاءِ الشُّكْرِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْكُفْرِ.
وَالْخَلَائِفُ: جَمْعُ خَلِيفَةٍ، وَالْخَلِيفَةُ: اسْمٌ لِمَا يخلف بِهِ شَيْء، أَيْ يُجْعَلُ خَلَفًا عَنْهُ، أَيْ عِوَضَهُ، يُقَالُ: خَلِيفَةٌ وَخِلْفَةٌ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَظَهَرَتْ فِيهِ التَّاءُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَيَّرُوهُ اسْمًا قَطَعُوهُ عَنْ مَوْصُوفِهِ.
وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى مَعْنَى (فِي) على لوجه الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَوْنُ الْخِطَابِ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ خَلَائِفَ فِيهَا، أَيْ خَلَفَ بِكُمْ أُمَمًا مَضَتْ قَبْلَكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الرُّسُلِ فِي مُخَاطَبَةِ أَقْوَامِهِمْ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: 69]- وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الْأَعْرَاف: 74]- عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الْأَعْرَاف: 129] . وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ كَوْنُ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَفِي هَذَا أَيْضًا تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةٍ تَتَضَمَّنُ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُمْ خَلَائِفَ غَيْرِهِمْ فَقَدْ أَنْشَأَهُمْ وَأَوْجَدَهُمْ عَلَى حِينِ أَعْدَمَ غَيْرَهُمْ، فَهَذِهِ نِعْمَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّرَ بَقَاءَ الْأُمَم الَّتِي قبلهَا لَمَا وُجِدَ هَؤُلَاءِ.