صَارَ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَيِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِالتَّقْوَى بِمَعْنَاهَا الشَّرْعِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: 2] .
[154]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
ثُمَّ هُنَا عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ تَعالَوْا [الْأَنْعَام: 151] فَلَيْسَتْ عَاطِفَةً لِلْمُفْرَدَاتِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لِتَرَاخِي الزَّمَانِ، بَلْ تَنْسَلِخُ عَنْهُ حِينَ تَعْطِفُ الْجُمَلَ فَتَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، وَهُوَ مُهْلَةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَتِلْكَ دَلَالَةُ (ثُمَّ) إِذَا عَطَفَتِ الْجُمَلَ. وَقَدِ اسْتُصْعِبَ عَلَى بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ مَسْلَكُ (ثُمَّ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ إِتْيَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ لَيْسَ بِرُتْبَةٍ أَهَمَّ
مِنْ رُتْبَةِ تِلَاوَةِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَا فَرَضَهُ مِنَ اتِّبَاعِ صِرَاطِ الْإِسْلَامِ. وَتَعَدَّدَتْ آرَاءُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَحْمِلِ (ثُمَّ) هُنَا إِلَى آرَاءٍ: لِلْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَأَبِي مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِمْ، كُلٌّ يَرُومُ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذَا الْمَضِيقِ.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي: أَنَّ (ثُمَّ) مَا فَارَقَتِ الْمَعْرُوفَ مِنْ إِفَادَةِ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، وَأَنَّ تراخي رُتْبَة إيتَاء مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ عَنْ تِلَاوَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ مُلَازَمَةِ صِرَاطِ الْإِسْلَامِ، إِنَّمَا يَظْهَرُ بَعْدَ النَّظَرِ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مَنْ ذِكْرِ إِيتَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ لَيْسَ لِذَاتِهِ بَلْ هُوَ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الْأَنْعَام: 92] لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا- إِلَى قَوْلِهِ: وَهُدىً وَرَحْمَةً [الْأَنْعَام: 156، 157] ، فَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَفَوْقَ ذَلِكَ فَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ جُمِعَ فِيهِ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (وَهُوَ أَعْظَمُ مَا أُوتِيَهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِهِ) وَمَا فِي الْقُرْآنِ: الَّذِي هُوَ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُهَيْمِنٌ عَلَيْهِ إِنِ اتَّبَعْتُمُوهُ وَاتَّقَيْتُمْ رَحِمْنَاكُمْ وَلَا مَعْذِرَةَ لَكُمْ