فِي تَقْرِيرِهِمْ عَلَى بِعْثَةِ الرّسل إِلَيْهِم بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ نَفْيِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَجِدُوا لِإِنْكَارِ مَجِيءِ الرُّسُلِ مَسَاغًا، وَاعْتَرَفُوا بِمَجِيئِهِمْ، كَانَ ذَلِكَ أَحْرَى لِأَخْذِهِمْ بِالْعِقَابِ.
وَالرُّسُلُ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ جَمْعُ رَسُولٍ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ، أَيْ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ بِمَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ: مِنِ اعْتِقَادٍ وَعَمَلٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ رَسُولٍ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ مَنْ أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [يس: 13] وَهُمْ رُسُلُ الْحَوَارِيِّينَ بَعْدَ عِيسَى.
فَوَصْفُ الرّسل بقوله: نْكُمْ
لِزِيَادَةِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، أَيْ رُسُلٌ تَعْرِفُونَهُمْ وَتَسْمَعُونَهُمْ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (مِنْ) اتِّصَالِيَّةً مِثْلُ الَّتِي فِي قَوْلِهِمْ: لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي، وَلَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، فَلَيْسَتْ مِثْلَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْجُمُعَة: 2] وَذَلِكَ أَنَّ رُسُلَ اللَّهِ لَا يَكُونُونَ إِلَّا مِنَ الْإِنْسِ، لِأَنَّ مَقَامَ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ لَا يَلِيقُ أَنْ يُجْعَلَ إِلَّا فِي أَشْرَفِ الْأَجْنَاسِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ، وَجِنْسُ الْجِنِّ أَحَطُّ مِنَ الْبَشَرِ لِأَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نَارٍ.
وَتَكُونُ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةً، وَيَكُونُ المُرَاد بضمير: نْكُمْ
خُصُوصَ الْإِنْسِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ، أَوْ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجانُ
[الرَّحْمَن: 22] وَإِنَّمَا يَخْرُجُ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ مِنَ الْبَحْرِ الْمِلْحِ. فَأَمَّا مُؤَاخَذَةُ الْجِنِّ بِمُخَالَفَةِ الرُّسُلِ فَقَدْ يَخْلُقُ اللَّهُ فِي الْجِنِّ إِلْهَامًا بِوُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ إِلَى دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَالْعَمَلِ بِهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجِنِّ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ- فَقالُوا- إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الْجِنّ: 1] الْآيَةَ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [30، 31] :
قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ذَلِكَ أَنَّ الظَّوَاهِرَ تَقْتَضِي أَنَّ الْجِنَّ لَهُمُ اتِّصَالٌ بِهَذَا الْعَالَمِ وَاطِّلَاعٌ عَلَى أَحْوَالِ أَهْلِهِ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الْأَعْرَاف: 27]