وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِمَّنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اهْتَدَوْا وَاسْتَفَاقُوا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَأَهَّلُوا لِامْتِلَاكِ الْعَالِمِ وَلَاقَوْا.
ومَنَّ فِي قَوْلِهِ مِنْ بَيْنِنا ابتدائية. و (بَين) ظَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى التَّوَسُّطِ، أَيْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مُخْتَارًا لَهُمْ مِنْ وَسَطِنَا، أَيْ مَنَّ عَلَيْهِم وَتَركنَا، فيؤول إِلَى مَعْنَى مِنْ دُونِنَا.
وَقَوْلُهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ تَذْيِيلٌ لِلْجُمْلَةِ كُلِّهَا، فَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ، وَلِذَلِكَ فُصِّلَ. وَالِاسْتِفْهَامُ تقريري. وعديّ بِأَعْلَمَ بِالْبَاءِ لِأَنَّهُ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ صَارَ قَاصِرًا. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِالشَّاكِرِينَ مِنْ عِبَادِهِ فَلِذَلِكَ مَنَّ عَلَى الَّذِينَ أَشَارُوا إِلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمِنَّةِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ.
وَمَعْنَى عِلْمُهُ تَعَالَى بِالشَّاكِرِينَ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ جَاءُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَتِهِ بِقَرِيحَةٍ طَالِبِينَ النَّجَاةَ مِنَ الْكُفْرِ رَاغِبِينَ فِي حُسْنِ الْعَاقِبَةِ، فَهُوَ يَلْطُفُ بِهِمْ وَيُسَهِّلُ لَهُمُ الْإِيمَانَ وَيُحَبِّبُهُ إِلَيْهِمْ وَيُزَيِّنُهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَزِيدُهُمْ يَوْمًا فَيَوْمًا تَمَكُّنًا مِنْهُ وَتَوْفِيقًا وَصَلَاحًا، فَهُوَ أَعْلَمُ بِقُلُوبِهِمْ وَصِدْقِهِمْ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّ رَثَاثَةَ حَالِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ تُطَابِقُ حَالَةَ قُلُوبِهِمْ فِي الْإِيمَانِ فَيَأْخُذُونَ النَّاسَ بِبَزَّاتِهِمْ دُونَ نِيَّاتِهِمْ. فَهَذَا التَّذْيِيلُ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ:
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الْأَنْعَام: 36] .
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أَنَّهُ أَيْضًا أَعْلَمُ بِأَضْدَادِهِمْ. ضِدُّ الشُّكْرِ هُوَ الْكُفْرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إِبْرَاهِيم: 7] فَهُوَ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ يَأْتُونَ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مُسْتَهْزِئِينَ مُتَكَبِّرِينَ لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا تَحْقِيرُ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَدِ اسْتَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ وَلُبَّهُمْ فِي مُجَادَلَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَضْلِيلِ الدَّهْمَاءِ فِي حَقِيقَةِ الدِّينِ. فَفِي الْكَلَامِ تَعْرِيض بالمشركين.
[54]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْأَنْعَام: 52] وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي إِكْرَامِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. فَهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا.