بِنَفْيِ الْأَضْعَفِ بَعْدَ نَفْيِ الْأَقْوَى، مَعَ رِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ.
وَالْغَضَبُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هُوَ غَضَبُ اللَّهِ. وَحَقِيقَةُ الْغَضَبِ الْمَعْرُوفِ فِي النَّاسِ أَنَّهُ كَيْفِيَّةٌ تَعْرِضُ لِلنَّفْسِ يَتْبَعُهَا حَرَكَةُ الرُّوحِ إِلَى الْخَارِجِ وَثَوَرَانُهَا فَتَطْلُبُ الِانْتِقَامَ، فَالْكَيْفِيَّةُ سَبَبٌ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَطَلَبُ الِانْتِقَامِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الِانْتِقَامِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ إِرَادَةَ الِانْتِقَامِ لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ مَاهِيَّةِ الْغَضَبِ بِحَيْثُ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكُونُ مِنْ آثَارِهِ، وَأَنَّ الْغَضَبَ هُوَ كَيْفِيَّةٌ لِلنَّفْسِ تَعْرِضُ مِنْ حُصُولِ مَا لَا يُلَائِمُهَا فَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كَرَاهِيَةُ الْفِعْلِ الْمَغْضُوبِ مِنْهُ وَكَرَاهِيَةُ فَاعِلِهِ، وَيُلَازِمُهُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ وَمُعَامَلَتُهُ بِالْعُنْفِ وَبِقَطْعِ الْإِحْسَانِ وَبِالْأَذَى وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى طَلَبِ الِانْتِقَامِ مِنْهُ فَيَخْتَلِفُ الْحَدُّ الَّذِي يَثُورُ عِنْدَ الْغَضَبِ فِي النَّفْسِ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ احْتِمَالِ النُّفُوسِ لِلْمُنَافَرَاتِ وَاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ فِي اعْتِبَارِ أَسْبَابِهِ، فَلَعَلَّ الَّذِينَ جَعَلُوا إِرَادَةَ الِانْتِقَامِ لَازِمَةً لِلْغَضَبِ بَنَوْا عَلَى الْقَوَانِينِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَإِذْ كَانَتْ حَقِيقَةُ الْغَضَبِ يَسْتَحِيلُ اتِّصَافُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا وَإِسْنَادُهَا إِلَيْهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِلْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ التَّغَيُّرَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِ صَرْفُ إِسْنَادِ الْغَضَبِ إِلَى اللَّهِ عَنْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَطَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ فِي هَذَا الصَّرْفِ أَنْ يُصْرَفَ اللَّفْظُ إِلَى الْمَجَازِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ أَوْ إِلَى الْكِنَايَةِ بِاللَّفْظِ عَنْ لَازِمِ مَعْنَاهُ فَالَّذِي يَكُونُ صِفَةً لِلَّهِ مِنْ مَعْنَى الْغَضَبِ هُوَ لَازِمُهُ، أَعْنِي الْعِقَابَ وَالْإِهَانَةَ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَاللَّعْنَةَ أَيِ الْإِبْعَادَ عَنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ فِي الدُّنْيَا أَوْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِيَّةِ.
وَكَانَ السَّلَفُ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَمُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي يُمْسِكُونَ عَنْ تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ لِمَا رَأَوْا فِي ذَلِكَ الْإِمْسَاكِ مِنْ مَصْلَحَةِ الِاشْتِغَالِ بِإِقَامَةِ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ مُرَادُ الشَّرْعِ مِنَ النَّاسِ فَلَمَّا نَشَأَ النَّظَرُ فِي الْعِلْمِ وَطَلَبِ مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَحَدَثَ قَوْلُ النَّاسِ فِي مَعَانِي الدِّينِ بِمَا لَا يُلَائِمُ الْحَقَّ، لَمْ يَجِدْ أَهْلُ الْعِلْمِ بُدًّا مِنْ تَوْسِيعِ أَسَالِيبِ التَّأْوِيلِ
الصَّحِيحِ لِإِفْهَامِ الْمُسْلِمِ وَكَبْتِ الْمُلْحِدِ، فَقَامَ الدِّينُ بِصَنِيعِهِمْ عَلَى قَوَاعِدِهِ، وَتَمَيَّزَ الْمُخْلِصُ لَهُ عَنْ مَاكِرِهِ وَجَاحِدِهِ. وَكُلٌّ فِيمَا صَنَعُوا عَلَى هُدًى. وَبَعْدَ الْبَيَانِ لَا يُرْجَعُ إِلَى الْإِجْمَالِ أَبَدًا. وَمَا تَأَوَّلُوهُ إِلَّا بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مَفْهُومٌ لِأَهْلِهِ.
فَغَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعُمُومِ يَرْجِعُ إِلَى مُعَامَلَتِهِ الْحَائِدِينَ عَنْ هَدْيِهِ الْعَاصِينَ لِأَوَامِرِهِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الِانْتِقَامُ وَهُوَ مَرَاتِبٌ أَقْصَاهَا عِقَابُ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْخُلُودِ فِي الدَّرْكِ