تَبْتَدِئُ مِنْ إِلْهَامِ الصَّبِيِّ الْتِقَامَ الثَّدْيِ وَالْبُكَاءَ عِنْدَ الْأَلَمِ إِلَى غَايَةِ الْوِجْدَانِيَّاتِ الَّتِي بِهَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ كَإِدْرَاكِ هَوْلِ الْمُهْلِكَاتِ وَبَشَاعَةِ الْمُنَافَرَاتِ، وَيَجْلِبُ مَصَالِحَهُ الْوُجُودِيَّةَ كَطَلَبِ الطَّعَامِ وَالْمَاءِ وَذَوْدِ الْحَشَرَاتِ عَنْهُ وَحَكِّ الْجِلْدِ وَاخْتِلَاجِ الْعَيْنِ عِنْدَ مُرُورِ مَا يُؤْذِي تُجَاهَهَا، وَنِهَايَتُهَا أَحْوَالُ الْفِكْرِ وَهُوَ حَرَكَةُ النَّفْسِ فِي الْمَعْقُولَاتِ أَعْنِي مُلَاحَظَةَ الْمَعْقُولِ لِتَحْصِيلِ الْمَجْهُولِ فِي الْبَدِيهِيَّاتِ وَهِيَ الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْإِنْسَانُ الْمُنْتَزَعَةُ مِنَ الْعُلُومِ الْمَحْسُوسَةِ.
الثَّانِي نَصْبُ الْأَدِلَّةِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصَّوَابِ وَالْخَطَأِ، وَهِيَ هِدَايَةُ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ. الثَّالِثُ الْهِدَايَةُ إِلَى مَا قَدْ تُقَصِّرُ عَنْهُ الْأَدِلَّةُ أَوْ يُفْضِي إِعْمَالُهَا فِي مِثْلِهِ إِلَى مَشَقَّةٍ وَذَلِكَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَمَوَازِينِ الْقِسْطِ وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الرُّسُل: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الْأَنْبِيَاء: 23] . الرَّابِعُ أَقْصَى أَجْنَاسِ الْهِدَايَةِ وَهِيَ كَشْفُ الْحَقَائِقِ الْعُلْيَا وَإِظْهَارُ أَسْرَارِ الْمَعَانِي الَّتِي حَارَتْ فِيهَا أَلْبَابُ الْعُقَلَاءِ إِمَّا بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ الصَّحِيحِ أَوِ التَّجَلِّيَاتِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى هَذَا هُدًى حِينَ أَضَافَهُ لِلْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: 90] .
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِقَوْلِهِ اهْدِنَا الْمُلَقَّنِ لِلْمُؤْمِنِينَ هُوَ مَا يُنَاسِبُ حَالَ الدَّاعِي بِهَذَا إِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ دَاعٍ خَاصٍّ أَوْ طَائِفَة خَاصَّة عِنْد مَا يَقُولُونَ: اهْدِنَا، أَوْ هُوَ أَنْوَاعُ الْهِدَايَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِاعْتِبَارِ تَوْزِيعِهَا عَلَى مَنْ تَأَهَّلَ لَهَا بِحَسَبِ أَهْلِيَّتِهِ إِنْ كَانَ دُعَاءً عَلَى لِسَانِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمُ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَبَعْضُ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ مَطْلُوبٌ حُصُولُهُ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ إِلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مَطْلُوبٌ دَوَامُهُ لِمَنْ كَانَ حَاصِلًا لَهُ خَاصَّةً أَوْ لِجَمِيعِ
النَّاسِ الْحَاصِلِ لَهُمْ، وَذَلِكَ كَالْهِدَايَةِ الْحَاصِلَةِ لَنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهَا مِثْلَ غَالِبِ أَنْوَاعِ الْجِنْسِ الْأَوَّلِ.
وَصِيغَةُ الطَّلَبِ مَوْضُوعَةٌ لِطَلَبِ حُصُولِ الْمَاهِيَّةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ كَفٍّ فَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ كَانَ اسْتِعْمَالُهَا مَجَازًا نَحْوَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النِّسَاء:
136] وَذَلِكَ حَيْثُ لَا يُرَادُ بِهَا إِلَّا طَلَبُ الدَّوَامِ. وَأَمَّا إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ لِلزِّيَادَةِ مِمَّا حَصَلَ بَعْضُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ بَعْضُهُ فَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَاهَا وَهُوَ طَلَبُ الْحُصُولِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي مَرَاتِبِ الْهِدَايَةِ مَثَلًا تَحْصِيلٌ لِمَوَادَّ أُخْرَى مِنْهَا. وَلَمَّا كَانَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ دَوَامِ مَا حَصَلَ إِذْ لَا تَكَادُ تَنْفَعُ الزِّيَادَةُ إِذَا انْتَقَضَ الْأَصْلُ كَانَ اسْتِعْمَالُهَا حِينَئِذٍ فِي لَازِمِ الْمَعْنَى مَعَ الْمَعْنَى فَهُوَ كِنَايَةٌ. أَمَّا إِذَا قَالَ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ مَنْ بَلَغَ جَمِيعَ مَرَاتِبِ الْهِدَايَةِ وَرَقِيَ إِلَى قِمَّةِ غاياتها وَهُوَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ