التَّنَبُّهُ لَهُ أَنَّ الِاسْمَ الظَّاهِرَ مُعْتَبَرٌ مِنْ قَبِيلِ الْغَائِبِ عَلَى كِلَا الرَّأْيَيْنِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ الْتِفَاتًا عَلَى كِلَا الرَّأْيَيْنِ لِأَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ تَعْبِيرٌ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ وَصِفَاتُهُ.

وَلِأَهْلِ الْبَلَاغَةِ عِنَايَةٌ بِالِالْتِفَاتِ لِأَنَّ فِيهِ تَجْدِيدَ أُسْلُوبِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ تَحَاشِيًا مِنْ تَكَرُّرِ الْأُسْلُوبِ الْوَاحِدِ عِدَّةَ مِرَارٍ فَيَحْصُلُ بِتَجْدِيدِ الْأُسْلُوبِ تَجْدِيدُ نَشَاطِ السَّامِعِ كَيْ لَا يَمَلَّ مِنْ إِعَادَةِ أُسْلُوبٍ بِعَيْنِهِ. قَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْعَرَبَ يَسْتَكْثِرُونَ مِنَ الِالْتِفَاتِ: «أَفَتَرَاهُمْ يُحْسِنُونَ قِرَى الْأَشْبَاحِ فَيُخَالِفُونَ بَيْنَ لَوْنٍ وَلَوْنٍ وَطَعْمٍ وَطَعْمٍ وَلَا يُحْسِنُونَ قِرَى الْأَرْوَاحِ فَيُخَالِفُونَ بَيْنَ أُسْلُوبٍ وَأُسْلُوبٍ» . فَهَذِهِ فَائِدَةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي الِالْتِفَاتِ. ثُمَّ إِنَّ الْبُلَغَاءَ لَا يَقْتَصِرُونَ عَلَيْهَا غَالِبًا بَلْ يُرَاعُونَ لِلِالْتِفَاتِ لَطَائِفَ وَمُنَاسَبَاتٍ وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ النَّقْدِ وَالْأَدَبِ يَسْتَخْرِجُونَ ذَلِكَ مِنْ مَغَاصِهِ.

وَمَا هُنَا الْتِفَاتٌ بَدِيعٌ فَإِنَّ الْحَامِدَ لَمَّا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَوَصَفَهُ بِعَظِيمِ الصِّفَاتِ بَلَغَتْ بِهِ

الْفِكْرَةُ مُنْتَهَاهَا فَتَخَيَّلَ نَفْسَهُ فِي حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ فَخَاطَبَ رَبَّهُ بِالْإِقْبَالِ، كَعَكْسِ هَذَا الِالْتِفَاتِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ الْخَارِجِيِّ (نِسْبَةً إِلَى بَنِي خَارِجَةَ قَبِيلَةٌ) :

ذُمِمْتَ وَلَمْ تُحْمَدْ وَأَدْرَكْتُ حَاجَةً ... تَوَلَّى سِوَاكُمْ أَجْرَهَا وَاصْطِنَاعَهَا

أَبَى لَكَ كَسْبَ الْحَمْدِ رَأْيٌ مُقَصِّرٌ ... وَنَفْسٌ أَضَاقَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ بَاعَهَا

إِذَا هِيَ حَثَّتْهُ عَلَى الْخَيْرِ مَرَّةً ... عَصَاهَا وَإِنْ هَمَّتْ بِشَرٍّ أَطَاعَهَا

فَخَاطَبَهُ ابْتِدَاءً ثُمَّ ذَكَرَ قُصُورَ رَأْيِهِ وَعَدَمَ انْطِبَاعِ نَفْسِهِ عَلَى الْخَيْرِ فَالْتَفَتَ مِنْ خِطَابِهِ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فَقَالَ: إِذَا هِيَ حَثَّتْهُ فَكَأَنَّهُ تَخَيَّلَهُ قَدْ تَضَاءَلَ حَتَّى غَابَ عَنْهُ، وَبِعَكْسِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي [العنكبوت: 23] لِاعْتِبَارِ تَشْنِيعِ كُفْرِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ صَاحِبِ ذَلِكَ الِاسْمِ الْجَلِيلِ، وَبَعْدَ تَقُرُّرِ ذَلِكَ انْتَقَلَ إِلَى أُسْلُوبِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِذْ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمُضَافَةِ إِلَى ذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ. وَمِمَّا يَزِيدُ الِالْتِفَاتَ وَقْعًا فِي الْآيَةِ أَنَّهُ تَخَلَّصَ مِنَ الثَّنَاءِ إِلَى الدُّعَاءِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الدُّعَاءَ يَقْتَضِي الْخِطَابَ فَكَانَ قَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ تَخَلُّصًا يَجِيءُ بَعْدَهُ: اهْدِنَا الصِّراطَ وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّابِغَةِ فِي رِثَاءِ النُّعْمَانِ الْغَسَّانِيِّ:

أَبَى غَفْلَتِي أَنِّي إِذَا مَا ذَكَرْتُهُ ... تَحَرَّكَ دَاءٌ فِي فُؤَادِيَ دَاخِلُُُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015