الصَّحَابَةِ غَسَلُوا جِرَارَ الْخَمْرِ لَمَّا نُودِيَ بِتَحْرِيم شربهَا لذَلِك مِنَ الْمُبَالغَة فِي التبرّي مِنْهَا وَإِزَالَةِ أَثَرِهَا قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ النَّظَرِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ كَسَّرَ جِرَارَهَا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِوُجُوبِ كَسْرِ الْإِنَاءِ الَّذِي فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ. عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ من الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى عَدَمِ نَجَاسَةِ عَيْنِ الْخَمْرِ. وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ بْنِ أبي عبد الرحمان، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَالْمُزَنِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمِنَ الْقَيْرَوَانِيِّينَ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْحَدَّادِ الْقَيْرَوَانِيِّ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ سَعِيدُ بْنُ الْحَدَّادِ (?) عَلَى طَهَارَتِهَا بِأَنَّهَا سُفِكَتْ فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ، وَلَوْ كَانَتْ نَجَسًا لَنُهُوا عَنْهُ، إِذْ قَدْ وَرَدَ النَّهْيُ
عَنْ إِرَاقَةِ النَّجَاسَةِ فِي الطُّرُقِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْفَرَسِ عَنِ ابْنِ لُبَابَةَ أَنَّهُ أَقَامَ قَوْلًا بِطَهَارَةِ عَيْنِ الْخَمْرِ مِنَ الْمَذْهَبِ.
وَأَقُولُ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ نَجِسَ الْعَيْنِ، وَأَنَّ مَسَاقَ الْآيَةِ بَعِيدٌ عَنْ قَصْدِ نَجَاسَةِ عَيْنِهَا، إِنَّمَا الْقَصْدُ أَنَّهَا رِجْسٌ مَعْنَوِيٌّ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَبَيَّنَهُ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ، وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَعْتَمِدُ الْخَبَاثَةَ وَالْقَذَارَةَ وَلَيْسَتِ الْخَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَنَزَّهَ السَّلَفُ عَنْ مُقَارَبَتِهَا لِتَقْرِيرِ كَرَاهِيَّتِهَا فِي النُّفُوسِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ بَيَانٌ لِكَوْنِهَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ. وَمَعْنَى يُرِيدُ يُحِبُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَوْنِ الْإِرَادَةِ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [44] .
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [64] .
وَقَوْلُهُ: فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَيْ فِي تَعَاطِيهِمَا، عَلَى مُتَعَارَفِ إِضَافَةِ الْأَحْكَامِ إِلَى الذَّوَاتِ، أَيْ بِمَا يَحْدُثُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ إِثَارَةِ الْخُصُومَاتِ وَالْإِقْدَامِ