فَانْتَصَبَ الْمُشَبَّهُ بِهِ. وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ مِيثَاقَ الْيَهُودِ لَمْ يُفَصَّلْ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ حَتَّى يُشَبَّهَ بِهِ مِيثَاقُ النَّصَارَى.
وَعُبِّرَ عَنِ النَّصَارَى بِ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى هُنَا وَفِي قَوْلِهِ الْآتِي: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [الْمَائِدَة: 82] تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اسْمَ دِينِهِمْ مُشِيرٌ إِلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَتْبَاعُهُ أَنْصَارًا لِمَا يَأْمُرُ بِهِ اللَّهُ، كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [الصَّفّ: 14] .
وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنْ يَنْصُرُوا الْقَائِمَ بِالدِّينِ بَعْدَ عِيسَى مِنْ أَتْبَاعِهِ، مِثْلَ بُولُسَ وَبُطْرُسَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ دُعَاةِ الْهُدَى وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يَنْصُرُوا النَّبِيءَ الْمُبَشَّرَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَ عِيسَى قَبْلَ مُنْتَهَى الْعَالَمِ وَيُخَلِّصَ النَّاسَ مِنَ الضَّلَالِ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمرَان: 81] الْآيَةَ. فَجَمِيعُ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ قَدْ لَزِمَهُمْ مَا الْتَزَمَهُ أَنْبِيَاؤُهُمْ وَبِخَاصَّةٍ النَّصَارَى، فَهَذَا اللَّقَبُ، وَهُوَ النَّصَارَى، حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ قَائِمَةٌ بِهِمْ مُتَلَبِّسَةٌ بِجَمَاعَتِهِمْ كُلِّهَا.
وَيُفِيدُ لَفْظُ قالُوا بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ الْكِنَائِيِّ أَنَّ هَذَا القَوْل غير مُوَفًّى بِهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُوَفَّى بِهِ. هَذَا إِذَا كَانَ النَّصَارَى جَمْعًا لِنَاصِرِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ عَلَى مَعْنَى النِّسْبَةِ إِلَى النَّصْرِ مُبَالَغَةً، كَقَوْلِهِمْ: شَعْرَانِيٌّ، وَلِحْيَانِيٌّ، أَيِ النَّاصِرُ الشَّدِيدُ النَّصْرِ فَإِنْ كَانَ النَّصَارَى اسْمَ جَمْعِ نَاصِرِيٍّ، بِمَعْنَى الْمَنْسُوبِ إِلَى النَّاصِرِيِّ، وَالنَّاصِرِيُّ عِيسَى، لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ. فَالنَّاصِرِيُّ صِفَةٌ عُرِفَ بِهَا الْمَسِيحُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي كُتُبِ الْيَهُودِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ بِدَعْوَةِ الرِّسَالَةِ مِنْ بَلَدِ النَّاصِرَةِ فِي فِلَسْطِينَ فَلِذَلِكَ كَانَ مَعْنَى النِّسْبَةِ إِلَيْهِ النِّسْبَةَ إِلَى طَرِيقَتِهِ وَشَرْعِهِ فَكُلُّ مَنْ حَادَ عَنْ شَرْعِهِ لَمْ يَكُنْ حَقِيقًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَعْوَى كَاذِبَةٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ:
قالُوا إِنَّا نَصارى. وَقِيلَ: إِنَّ النَّصَارَى جَمْعُ نَصْرَانِيٍّ، مَنْسُوبٌ إِلَى النَّصْرِ: كَمَا قَالُوا:
شَعْرَانِيٌّ، وَلِحْيَانِيٌّ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ أَنْصَارَ اللَّهِ. وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى قالُوا: إِنَّا نَصارى أَنَّهُمْ زَعَمُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ وَلَمْ يُؤَيِّدُوهُ بِفِعْلِهِمْ.