وَخُتِمَتْ بِالتَّذْكِيرِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَشَهَادَةِ الرُّسُلِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَشَهَادَةِ عِيسَى عَلَى النَّصَارَى، وَتَمْجِيدِ اللَّهِ تَعَالَى.
[1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.
تَصْدِيرُ السُّورَةِ بِالْأَمْرِ بِالْإِيفَاءِ بِالْعُقُودِ مُؤْذِنٌ بِأَنْ سَتَرِدُ بَعْدَهُ أَحْكَامٌ وَعُقُودٌ كَانَتْ عُقِدَتْ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، ذَكَّرَهُمْ بِهَا لِأَنَّ عَلَيْهِمُ الْإِيفَاءَ بِمَا عَاقَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. وَهَذَا كَمَا تُفْتَتَحُ الظَّهَائِرُ السُّلْطَانِيَّةُ بِعِبَارَةِ: هَذَا ظُهَيْرٌ كَرِيمٌ يُتَقَبَّلُ بِالطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ. وَذَلِكَ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْعُقُودِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَشَمَلَ الْعُقُودَ الَّتِي عَاقَدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا رَبَّهُمْ وَهُوَ الِامْتِثَالُ لِشَرِيعَتِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ [الْمَائِدَة: 7] ، وَمِثْلِ مَا كَانَ يُبَايِعُ عَلَيْهِ الرَّسُولُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقُوا وَلَا يَزْنُوا، وَيَقُولُ لَهُمْ: فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.
وَشَمَلَ الْعُقُودَ الَّتِي عَاقَدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا الْمُشْرِكِينَ، مِثْلَ قَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التَّوْبَة: 2] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: 2] . وَيَشْمَلُ الْعُقُودَ الَّتِي يَتَعَاقَدُهَا الْمُسْلِمُونَ بَيْنَهُمْ.
وَالْإِيفَاءُ هُوَ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا، أَيْ غَيْرِ مَنْقُوصٍ، وَلَمَّا كَانَ تَحَقُّقُ تَرْكِ النَّقْصِ لَا يَحْصُلُ فِي الْعُرْفِ إِلَّا بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْوَاجِبِ، صَارَ الْإِيفَاءُ مُرَادًا مِنْهُ عُرْفًا الْعَدْلُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [173] .
وَالْعُقُودُ جَمْعُ عَقْدٍ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ-، وَهُوَ الِالْتِزَامُ الْوَاقِعُ بَيْنَ جَانِبَيْنِ فِي فِعْلٍ مَا.
وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ الْعَقْدَ هُوَ ربط الْحَبل بالعروة وَنَحْوِهَا، وَشَدُّ الْحَبَلِ فِي نَفْسِهِ أَيْضًا عَقْدٌ. ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الِالْتِزَامِ، فَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، قَالَ الْحُطَيْئَةُ: