ثُمَّ حَدَثَتْ فِيهِمْ فِرْقَةُ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَفِرْقَةُ النَّسْطُورِيَّةِ (?) فِي مَجَامِعٍ أُخْرَى انْعَقَدَتْ بَيْنَ الرُّهْبَانِ. فَالْيَعْقُوبِيَّةُ، وَيُسَمَّوْنَ الْآنَ (أَرْثُودُكْسَ) ، ظَهَرُوا فِي أَوَاسِطِ الْقَرْنِ السَّادِسِ الْمَسِيحِيِّ، وَهُمْ أَسْبَقُ مِنَ النَّسْطُورِيَّةِ قَالُوا: انْقَلَبَتِ الْإِلَهِيَّةُ لَحْمًا وَدَمًا فَصَارَ الْإِلَهُ هُوَ الْمَسِيحُ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَدَرَتْ عَنِ الْمَسِيحِ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكَمَهِ وَالْأَبْرَصِ فَأَشْبَهَ صُنْعُهُ صُنْعَ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ نَصَارَى الْحَبَشَةِ يَعَاقِبَةً، وَسَنَتَعَرَّضُ لِذِكْرِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [72] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ [مَرْيَم:
37] .
وَالنَّسْطُورِيَّةُ قَالَتْ: اتَّحَدَتِ الْكَلِمَةُ بِجَسَدِ الْمَسِيحِ بِطَرِيقِ الْإِشْرَاقِ كَمَا تُشْرِقُ الشَّمْسُ مِنْ كُوَّةٍ من بلّور، فالمسح إِنْسَانٌ، وَهُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ هُوَ إِنْسَانٌ إِلَهٌ، أَوْ هُوَ لَهُ ذَاتِيَّتَانِ ذَاتٌ إِنْسَانِيَّةٌ وَأُخْرَى إِلَهِيَّةٌ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى الرَّئِيسِ الدِّينِيِّ لِهَذِهِ النِّحْلَةِ لَقَبُ (جَاثِلِيقَ) .
وَكَانَتِ النِّحْلَةُ النَّسْطُورِيَّةُ غَالِبَةً عَلَى نَصَارَى الْعَرَبِ. وَكَانَ رُهْبَانُ الْيَعَاقِبَةِ وَرُهْبَانُ النَّسْطُورِيِّينَ يَتَسَابَقُونَ لِبَثِّ كُلِّ فَرِيقٍ نِحْلَتَهُ بَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ. وَكَانَ الْأَكَاسِرَةُ حُمَاةً لِلنَّسْطُورِيَّةِ. وَقَيَاصِرَةُ الرُّومِ حُمَاةً لِلْيَعْقُوبِيَّةِ. وَقَدْ شَاعَتِ النَّصْرَانِيَّةُ بِنِحْلَتَيْهَا فِي بَكْرٍ، وَتَغْلِبَ، وَرَبِيعَةَ، وَلَخْمٍ، وَجُذَامَ، وَتَنُوخَ، وَكَلْبٍ، وَنَجْرَانَ، وَالْيَمَنِ، وَالْبَحْرِينِ. وَقَدْ بَسَطْتُ هَذَا لِيُعْلَمَ حُسْنُ الْإِيجَازِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ وَإِتْيَانِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا. فَلِلَّهِ هَذَا الْإِعْجَازُ الْعِلْمِيُّ.