فَاحْتِجَاجُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْكَلَامِ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى الصِّفَةَ الذَّاتِيَّةَ الْقَائِمَةَ بِاللَّهِ تَعَالَى احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ الْمَازِرِيُّ قَالَ فِي «شَرْحِ التَّلْقِينِ» : إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى مُبَاشَرَةً بَلْ بِوَاسِطَةِ خَلْقِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ أَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ، وَأَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ التُّونِسِيَّ، شَيْخَ ابْنِ عَرَفَةَ، رَدَّهُ بِأَنَّ التَّأْكِيدَ بِالْمَصْدَرِ لِإِزَالَةِ

الشَّكِّ عَنِ الْحَدِيثِ لَا عَنِ الْمُحَدِّثِ عَنْهُ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِمَا يَؤُولُ إِلَى تَأْيِيدِ رَدِّ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.

وَقَوْلُهُ: رُسُلًا حَالٌ مِنَ الْمَذْكُورِينَ، وَقَدْ سَمَّاهُمْ رُسُلًا لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَهِيَ حَالٌ مُوَطِّئَةٌ لِصِفَتِهَا، أَعْنِي مُبَشِّرِينَ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَال.

وَقَوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَسُوقٌ لِبَيَانِ صِحَّةِ الرِّسَالَةِ مَعَ الْخُلُوِّ عَنْ هُبُوطِ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: 93] . فموقع قَوْله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ مَوْقِعَ الْإِدْمَاجِ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ بِحِكْمَةٍ مِنَ الحكم فِي بعثته الرُّسُلَ.

وَالْحُجَّةُ مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي وَحَقِّيَّةِ الْمُعْتَذِرِ، فَهِيَ تَقْتَضِي عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ أَوِ التَّقْصِيرِ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْعُذْرُ الْبَيِّنُ الَّذِي يُوجِبُ التَّنَصُّلَ مِنَ الْغَضَبِ وَالْعِقَابِ.

فَإِرْسَالُ الرُّسُلِ لِقَطْعِ عُذْرِ الْبَشَرِ إِذَا سُئِلُوا عَنْ جَرَائِمِ أَعْمَالِهِمْ، وَاسْتَحَقُّوا غَضَبَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ. فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ لِلنَّاسِ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ حُجَّةً إِلَى اللَّهِ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْقَصَص: 47] .

وَأَشْعَرَتِ الْآيَةُ أَنَّ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ مَا هُوَ بِحَيْثُ يُغْضِبُ اللَّهَ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَهِيَ الْأَفْعَالُ الَّتِي تَدُلُّ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ عَلَى قُبْحِهَا لِإِفْضَائِهَا إِلَى الْفَسَادِ وَالْأَضْرَارِ الْبَيِّنَةِ. وَوَجْهُ الْإِشْعَارِ أَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا تُقَابِلُ مُحَاوَلَةَ عَمَلٍ مَا، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ لِقَطْعِ الْحُجَّةِ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ حِينَ بَعَثَ الرُّسُلَ كَانَ بِصَدَدِ أَنْ يُؤَاخِذَ الْمَبْعُوثَ إِلَيْهِمْ، فَاقْتَضَتْ رَحْمَتُهُ أَنْ يَقْطَعَ حُجَّتَهُمْ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ وَإِرْشَادِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ قَطْعَ الْحُجَّةِ عِلَّةً غَائِيَّةً لِلتَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ: إِذِ التَّبْشِيرُ وَالْإِنْذَارُ إِنَّمَا يُبَيِّنَانِ عَوَاقِبَ الْأَعْمَالِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَلِّلْ بَعْثَةَ الرُّسُلِ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ وَمَا يُسْخِطُهُ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015