وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الْكَهْف: 78] . وَتَقْدِيمُ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ هَذِهِ الْفُتْيَا.
وَقَوْلُهُ: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ عُطِفَ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ وَيُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، أَيِ الْقُرْآنِ، وَإِسْنَادُ الْإِفْتَاءِ إِلَى مَا يُتْلَى إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ، لِأَنَّ مَا يُتْلَى دَالٌّ عَلَى إِفْتَاءِ اللَّهِ فَهُوَ سَبَبٌ فِيهِ، فَآلَ الْمَعْنَى إِلَى: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ بِمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، وَالْمرَاد بذلك بِمَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ، وَمَا سَيُتْلَى بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّذْكِيرَ بِهِ وَتَكْرِيرَهُ إِفْتَاءٌ بِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَمَا أَتْبَعَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ إِفْتَاءٌ أَيْضًا. وَقَدْ أَلَمَّتِ الْآيَةُ بِخُلَاصَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [النِّسَاء:
2- 6] . وَكَذَلِكَ أَشَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى فِقَرٍ مِمَّا تَقَدَّمَ: بِقَوْلِهِ هُنَا: فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ فَأَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا إِلَى قَوْلِهِ: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاء: 3، 4] .
وَلِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ بَعْدَ تَرْغَبُونَ- هُنَا- مَوْقِعٌ عَظِيمٌ مِنَ الْإِيجَازِ وَإِكْثَارِ الْمَعْنَى، أَيْ تَرْغَبُونَ عَنْ نِكَاحِ بَعْضِهِنَّ، وَفِي نِكَاحِ بَعْضٍ آخَرَ، فَإِنَّ فِعْلَ رَغِبَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (عَنْ) لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يُحَبُّ وَبِحَرْفِ (فِي) لِلشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ. فَإِذَا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ احْتَمَلَ الْمَعْنَيَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَنَافٍ، وَذَلِكَ قَدْ شَمَلَهُ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا [النِّسَاء: 3] إِلَخْ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ هُنَا وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ إِلَى قَوْلِهِ هُنَالِكَ وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ- إِلَى- كَبِيراً [النِّسَاء: 2] وَإِلَى قَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ إِلَى قَوْله: مَعْرُوفاً [النِّسَاء: 5] .
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ إِلَى قَوْلِهِ هُنَالِكَ وَابْتَلُوا الْيَتامى - إِلَى- حَسِيباً [النِّسَاء: 6] .
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يُتْلَى فِي الْكِتَابِ هُوَ مِنْ إِفْتَاءِ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى وَقْتِ الِاسْتِفْتَاءِ كَانَ مُغَايِرًا لِلْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، فَلِذَلِكَ صَحَّ عَطْفُهُ عَلَيْهِ عَطْفَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ. وَالْإِفْتَاءُ الْأُنُفُ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً- إِلَى- واسِعاً حَكِيماً [النِّسَاء: 128- 130] .
وَ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: فِي يَتامَى النِّساءِ لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ فِي شَأْنِهِنَّ، أَوْ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِهِنَّ، وَمَعْنَى كُتِبَ لَهُنَّ فُرِضَ لَهُنَّ إِمَّا مِنْ أَمْوَالِ مَنْ يَرِثْنَهُمْ، أَوْ مِنَ