وَانْتَصَبَ فَتِيلًا عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، لِأَنَّهُ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: ظُلْمًا كَالْفَتِيلِ، أَيْ بِقَدْرِهِ، فَحُذِفَتْ أَدَاةُ التَّشْبِيهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النِّسَاء: 40] .
وَقَوْلُهُ: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ جَعَلَ افْتِرَاءَهُمُ الْكَذِبَ، لِشَدَّةِ تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، كَأَنَّهُ أَمْرٌ مَرْئِيٌّ يَنْظُرُهُ النَّاسُ بِأَعْيُنِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مِمَّا يُسْمَعُ وَيُعْقَلُ، وَكَلِمَةُ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً نِهَايَةٌ فِي بُلُوغِهِ غَايَةَ الْإِثْمِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ تَرْكِيبُ (كَفَى بِهِ كَذَا) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي (كَفَى) عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً [الْفَتْح: 28] .
[51، 52]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)
أُعِيدَ التَّعْجِيبُ مِنَ الْيَهُودِ، الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، بِمَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ حَالِهِمُ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ [النِّسَاء: 44] فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَتَصْوِيبَهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ تَبَاعُدٌ مِنْهُمْ عَنْ أُصُولِ شَرْعِهِمْ بِمَرَاحِلَ شَاسِعَةٍ، لِأَنَّ أَوَّلَ قَوَاعِدِ التَّوْرَاةِ وَأُولَى كَلِمَاتِهَا الْعَشْرِ هِيَ (لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي، لَا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا، لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلَا تَعْبُدْهُنَّ) . وَتَقَدَّمَ بَيَانُ تَرْكِيبِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ آنِفًا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [23] .
وَالْجِبْتُ: كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ مِنَ الْحَبَشِيَّةِ، أَيِ الشَّيْطَانُ وَالسِّحْرُ لِأَنَّ مَادَّةَ: ج- ب- ت مُهْمَلَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ دَخِيلَةً. وَقِيلَ: أَصْلُهَا جِبْسٌ: وَهُوَ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ، فَأُبْدِلَتِ السِّينُ تَاءً كَمَا أُبْدِلَتْ فِي قَوْلِ عِلْبَاءَ بْنِ أَرْقَمَ:
يَا لَعَنَ اللَّهُ بَنِي السَّعْلَاتِ، وَعَمْرو بْنَ يَرْبُوعٍ شِرَارَ النَّاتِ، لَيْسُوا أَعِفَّاءَ وَلَا أَكْيَاتِ، أَيْ شِرَارُ النَّاسِ وَلَا بِأَكْيَاسٍ. وَكَمَا قَالُوا: الْجَتُّ بِمَعْنَى الْجَسِّ.