إِنَّ الْعِلْمَ نَوْعَانِ عِلْمٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَعِلْمٌ حَقِيقِيٌّ، فَأَمَّا الِاصْطِلَاحِيُّ فَهُوَ مَا تَوَاضَعَ النَّاسُ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ يُعَدُّ فِي صَفِّ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا قَدْ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْعُصُورِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ وَالْأَقْطَارِ، وَهَذَا النَّوْعُ لَا تَخْلُو عَنْهُ أُمَّةٌ.
وَأَمَّا الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ فَهُوَ مَعْرِفَةُ مَا بِمَعْرِفَتِهِ كَمَالُ الْإِنْسَانِ، وَمَا بِهِ يَبْلُغُ إِلَى ذُرْوَةِ الْمَعَارِفِ وَإِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ النَّافِعَةِ عَاجِلًا وَآجِلًا، وَكِلَا الْعِلْمَيْنِ كَمَالٌ إِنْسَانِيٌّ وَوَسِيلَةٌ لِسِيَادَةِ أَصْحَابِهِ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ، وَبَيْنَ الْعِلْمَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ. وَهَذِهِ الْجِهَةُ خَلَا عَنْهَا كَلَامُ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ أَغْرَاضَ شِعْرِهِمْ كَانَتْ لَا تَعْدُو وَصْفَ الْمُشَاهَدَاتِ وَالْمُتَخَيَّلَاتِ وَالِافْتِرَاضَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَا تَحُومُ حَوْلَ تَقْرِيرِ الْحَقَائِقِ وَفَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي هِيَ أَغْرَاضُ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُلْ إِلَّا صِدْقًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ.
وَقَدِ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى النَّوْعَيْنِ، فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَتَنَاوُلُهُ قَرِيبٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كَدِّ فِكْرٍ وَلَا يَقْتَضِي نَظَرًا فَإِنَّ مَبْلَغَ الْعلم عِنْدهم يؤمئذ عُلُومُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَعْرِفَةُ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَقَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ وَأَخْبَارِ الْعَالَمِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام: 155- 157] وَقَالَ: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا
[هود: 49] وَنَحْوَ
هَذَا مِنْ مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ عِيَاضٌ بِقَوْلِهِ فِي «الشِّفَاءِ» : «مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ وَالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ وَالشَّرَائِعِ الدَّاثِرَةِ مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ الْقِصَّةَ مِنْهُ إِلَّا الْفَذُّ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي قَضَى عُمُرَهُ فِي تَعْلِيمِ ذَلِكَ فَيُورِدُهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ فَيَعْتَرِفُ الْعَالِمُ بِذَلِكَ بِصِحَّتِهِ وَصِدْقِهِ كَخَبَرِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ، وَيُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ، وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، وَلُقْمَانَ» إِلَخْ كَلَامِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ سَاقَهُ فِي غَيْرِ مَسَاقِنَا بَلْ جَاءَ بِهِ دَلِيلًا عَلَى الْإِعْجَازِ مِنْ حَيْثُ عِلْمُهُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ثُبُوتِ الْأُمِّيَّةِ، وَمِنْ حَيْثُ مُحَاجَّتِهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ. فَأَمَّا إِذَا أَرَدْنَا عَدَّ هَذَا الْوَجْهِ فِي نَسَقِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ فَذَلِكَ فِيمَا نَرَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُنْ أَدَبُهُمْ مُشْتَمِلًا عَلَى التَّارِيخِ إِلَّا بِإِشَارَاتٍ نَادِرَةٍ، كَقَوْلِهِمْ دِرْعٌ عَادِيَّةٌ، وَرُمْحٌ يَزَنِيَّةٌ،