نِكَاحُ الْإِمَاءِ الْمُسْلِمَاتِ مَشْرُوطًا بِالْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِالْعَجْزِ عَنِ الْكِتَابِيَّاتِ أَيْضا بقاعدة قِيَاس الْمُسَاوَاةِ. وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ يُعَرِّضُ الْأَوْلَادَ لِلرِّقِّ، بِخِلَافِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، فَتَعْطِيلُ مَفْهُومِ قَوْلِهِ: الْمُؤْمِناتِ مَعَ الْمُحْصَناتِ حَصَلَ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى، فَلِذَلِكَ أَلْغَوُا الْوَصْفَ هُنَا، وَأَعْمَلُوهُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. وَشَذَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، فَاعْتَبَرُوا رُخْصَةَ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ مَشْرُوطَةً بِالْعَجْزِ عَنِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ، وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، وَكَأَنَّ فَائِدَةَ ذِكْرِ وَصْفِ الْمُؤْمِنَاتِ هُنَا أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَكْتَرِثْ عِنْدَ التَّشْرِيعِ بِذِكْرِ غَيْرِ الْغَالِبِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ، فَصَارَ الْمُؤْمِنَاتُ هُنَا كَاللَّقَبِ فِي نَحْوِ (لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ) .
وَالْفَتَيَاتُ جَمْعُ فَتَاةٍ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ الشَّابَّةُ كَالْفَتَى، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْأَمَةُ أُطْلِقَ
عَلَيْهَا الْفَتَاةُ كَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهَا الْجَارِيَةُ، وَعَلَى الْعَبْدِ الْغُلَامُ، وَهُوَ مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ يُعَامَلَانِ مُعَامَلَةَ الصَّغِيرِ فِي الْخِدْمَةِ، وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ. وَوَصْفُ الْمُؤْمِنَاتِ عَقِبَ الْفَتَيَاتِ مَقْصُودٌ لِلتَّقْيِيدِ عِنْدَ كَافَّةِ السَّلَفِ، وَجُمْهُورِ أَيِمَّةِ الْفِقْهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَفْهُومٌ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى تَعْطِيلِهِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ نِكَاحُ أَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اجْتِمَاعَ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ يُبَاعِدُ الْمَرْأَةَ عَنِ الْحُرْمَةِ فِي اعْتِبَارِ الْمُسْلِمِ، فَيَقِلُّ الْوِفَاقُ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ. وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِي الْأَبْنَاءِ إِذْ يَكُونُونَ أَرِقَّاءَ مَعَ مُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ الدِّينِ الْمُخَالِفِ فَيَمْتَدُّ الْبَوْنُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِيهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَوْقِعُ وَصْفِ الْمُؤْمِنَاتِ هُنَا كَمَوْقِعِهِ مَعَ قَوْلِهِ: الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ كَوْنَهَا مُؤْمِنَةً، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا أَعْرِفُ هَذَا الْقَوْلَ لِأَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ إِلَّا لِعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ- وَهُوَ تَابِعِيٌّ قَدِيمٌ رَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَرَى إِعْمَالَ الْمَفْهُومِ.
وَتَقَدَّمَ آنِفًا مَعْنَى مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.
وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: أَيْمانُكُمْ وَقَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ لِلتَّقْرِيبِ وَإِزَالَةِ مَا بَقِيَ فِي نُفُوسِ الْعَرَبِ مِنِ احْتِقَارِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَالتَّرَفُّعِ عَنْ نِكَاحِهِمْ وَإِنْكِاحَهِمْ، وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَإِنْ كنّا نرَاهُ للتقيد فَهُوَ لَا يَخْلُو مَعَ ذَلِكَ مِنْ فَائِدَةِ التَّقْرِيبِ، إِذِ الْكَفَاءَةُ عِنْدَ مَالِكٍ تَعْتَمِدُ الدِّينَ أَوَّلًا.