وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِعْلَامَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ ذَلِكَ بَلْ لَازَمَهُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابَةِ إِمَّا كِتَابَتُهُ فِي صَحَائِفِ آثَامِهِمْ إِذْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يُكْتَبَ فِي صَحَائِفِ الْحَسَنَاتِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ وُجُودَ عَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ أَمْرٌ يَحْصُلُ فِيمَا بَعْدُ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ مِنَ الْكِتَابَةِ عَدَمُ الصَّفْحِ عَنْهُ وَلَا الْعَفْوُ بَلْ سَيُثْبَتُ لَهُمْ وَيُجَازُونَ عَنْهُ فَتَكُونُ الْكِتَابَةُ كِنَايَةً عَنِ الْمُحَاسَبَةِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ وَعِيدًا وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ تَهْدِيدًا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ مِنْ (سَنَكْتُبُ) وَبِنَصْبِ اللَّامِ مِنْ (قَتْلَهُمُ) عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ (نَكْتُبُ) وَ (نَقُولُ) بِنُونٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ: سَيُكْتَبُ- بِيَاءِ الْغَائِبِ مَضْمُومَةً وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ- مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ لِأَنَّ فَاعِلَ الْكِتَابَةِ مَعْلُومٌ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِرَفْعِ اللَّامِ مِنْ (قَتْلُهُمُ) عَلَى أَنه نَائِب الْفَاعِل. (وَيَقُولُ) بِيَاءِ الْغَائِبِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ.

وَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ زِيَادَةٌ فِي مَذَمَّتِهِمْ بِذِكْرِ مَسَاوِي أَسْلَافِهِمْ، لِأَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ هُمْ غَيْرُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ بَلْ هُمْ مِنْ أَسْلَافِهِمْ، فَذُكِرَ هُنَا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ شَنْشَنَةٌ قَدِيمَةٌ فِيهِمْ، وَهِيَ الِاجْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَاتِّحَادُ الضَّمَائِرِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُعَادِ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ فِي الْمَحَامِدِ وَالْمَذَامِّ الَّتِي تُنَاطُ بِالْقَبَائِلِ.

قَالَ الْحَجَّاجُ فِي خُطْبَتِهِ بَعْدَ يَوْمِ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ يُخَاطِبُ أَهْلَ الْعِرَاقِ: أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ أَضْمَرْتُمُ الشَّرَّ وَاسْتَبْطَنْتُمُ الْكُفْرَ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ يَوْمُ الزَّاوِيَةِ وَمَا يَوْمُ الزَّاوِيَةِ.. إِلَخْ، مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ مَاتَ وَمَنْ طَرَأَ بَعْدُ.

وَقَوْلُهُ: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ عُطِفَ أَثَرُ الْكُتُبِ عَلَى الْكُتُبِ أَيْ سَيُجَازَوْنَ عَنْ ذَلِكَ بِدُونِ صَفْحٍ، وَنَقُولُ ذُوقُوا وَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ بِأَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ.

وَالذَّوْقُ حَقِيقَتُهُ إِدْرَاكُ الطُّعُومِ، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا مُرْسَلًا فِي الْإِحْسَاسِ بِالْعَذَابِ فَعَلَاقَتُهُ الْإِطْلَاقُ، وَنُكْتَتُهُ أَنَّ الذَّوْقَ فِي الْعُرْفِ يَسْتَتْبِعُ تَكَرُّرَ ذَلِكَ الْإِحْسَاسِ لِأَنَّ الذَّوْقَ يَتْبَعُهُ الْأَكْلُ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ «ذُوقُوا» اسْتِعَارَةً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015