وَقَوْلُهُ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ الْحَبَلُ مُسْتَعَارٌ لِلْعَهْدِ، وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [256] وَعَهْدُ اللَّهِ ذِمَّتُهُ، وَعَهْدُ النَّاسِ حِلْفُهُمْ، وَنَصْرُهُمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَهِيَ أَحْوَالٌ دَلَّتْ عَلَيْهَا الْبَاءُ الَّتِي لِلْمُصَاحَبَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ مُتَلَبِّسِينَ بِكُلِّ حَالٍ إِلَّا مُتَلَبِّسِينَ بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَذَهَبُوا بِذِلَّةٍ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ.
وَالْمَعْنَى لَا يَسْلَمُونَ مِنَ الذِّلَّةِ إِلَّا إِذَا تَلَبَّسُوا بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، أَيْ ذِمَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ إِذَا اسْتَنْصَرُوا بِقَبَائِلَ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَأَمَّا هُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ فَلَا نَصْرَ لَهُمْ. وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا أعزّة بيشرب وَخَيْبَرَ وَالنَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ، فَأَصْبَحُوا أَذِلَّةً، وَعَمَّتْهُمُ الْمَذَلَّةُ فِي سَائِرِ أقطار الدُّنْيَا.
وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أَيْ رَجَعُوا وَهُوَ مَجَازٌ لِمَعْنَى صَارُوا إِذْ لَا رُجُوعَ هُنَا.
وَالْمَسْكَنَةُ الْفَقْرُ الشَّدِيدُ مُشْتَقَّةٌ مِنِ اسْمِ الْمِسْكِينِ وَهُوَ الْفَقِيرُ، وَلَعَلَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ السُّكُونِ وَهُوَ سُكُونٌ خَيَالِيٌّ أُطْلِقَ عَلَى قِلَّةِ الْحِيلَةِ فِي الْعَيْشِ. وَالْمُرَادُ بِضَرْبِ الْمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ تقديرها لَهُم وَهَذَا إِخْبَارٌ بِمُغَيَّبٍ لِأَنَّ الْيَهُودَ الْمُخْبِرَ عَنْهُمْ قَدْ أَصَابَهُمُ الْفَقْرُ حِينَ أُخِذَتْ مَنَازِلُهُمْ فِي خَيْبَرَ وَالنَّضِيرِ وَقَيْنُقَاعَ وَقُرَيْظَةَ، ثُمَّ بِإِجْلَائِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زمن عمر.
مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ.
الْإِشَارَةُ إِلَى ضَرْبِ الذِّلَّةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ. وَمَعْنَى يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ [آل عمرَان: 21] أَوَائِلَ هَذِهِ السُّورَةِ.