وَتَعْرِيفُ (الطَّعَامِ) تَعْرِيف الْجِنْس، و (كلّ) لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ أَصْرَحُ مَا فِي التَّوْرَاةِ دَلَالَةً عَلَى وُقُوعِ النَّسَخِ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ ذَكَرَتْ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَكْلَ عِرْقِ النَّسَا الَّذِي عَلَى الْفَخِذِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا، فَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ النُّذُرِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَطِبَّاءَ نَهَوْهُ عَنْ أَكْلِ مَا فِيهِ عِرْقُ النَّسَا لِأَنَّهُ كَانَ مُبْتَلًى بِوَجَعِ نَسَاهُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ فِي الْبَدْوِ فَلَمْ تَسْتَقِمْ عَافِيَتُهُ بِأَكْلِ اللَّحْمِ الَّذِي فِيهِ النَّسَا. وَمَا حَرَّمَهُ يَعْقُوبُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الطَّعَامِ: ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ، بَلْ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فَبَعْضُهُ أَرَادَ بِهِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ بِحِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ الْمُشْتَهَاةِ، وَهَذَا مِنْ جِهَادِ النَّفْسِ، وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الزَّاهِدِينَ، وَكَانَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالْعَزْمِ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلْأَنْبِيَاءِ فِي التَّشْرِيعِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَصَرُّفِهِ فِي نَفْسِهِ فِيمَا أُبِيحَ لَهُ، وَلَمْ يَدْعُ إِلَيْهِ غَيْرَهُ، وَلَعَلَّ أَبْنَاءَ يَعْقُوبَ تَأَسَّوْا بِأَبِيهِمْ فِيمَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِيهِمْ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ تَصْرِيحٌ بِمَحَلِّ الْحُجَّةِ مِنَ الرَّدِّ إِذِ الْمَقْصُودُ تَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَا تَنَاسَوْهُ فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ بِكَوْنِ يَعْقُوبَ كَانَ قَبْلَ مُوسَى، وَقَالَ الْعِصَامُ: يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ بِقَوْلِهِ: حِلًّا لِئَلَّا يَلْزَمَ خُلُوُّهُ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُجْدٍ لِأَنَّهُ لَمَّا تَأَخَّرَ عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ قَوْلِهِ حِلًّا وَتَبَيَّنَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى زَمَنِ يَعْقُوبَ، صَارَ ذِكْرُ الْقَيْدِ لَغْوًا لَوْلَا تَنْزِيلُهُمْ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ، وَقَصْدُ إِعْلَانِ التَّسْجِيلِ بِخَطَئِهِمْ وَالتَّعْرِيضُ بِغَبَاوَتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ فِي زَعْمِكُمْ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا قُلْنَاهُ أَوْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ: مِنْ قَوْلِكُمْ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ، وَهُوَ أَمْرٌ لِلتَّعْجِيزِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِهَا إِذَا اسْتَدَلُّوا عَلَى الصِّدْقِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوا فَاءُ التَّفْرِيعِ.