[سُورَة آل عمرَان (3) : الْآيَات 75 إِلَى 76]

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)

عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [آل عمرَان: 72] أَوْ عَلَى قَوْلِهِ:

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمرَان: 69] عَطْفُ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَالْمُنَاسَبَةُ بَيَانُ دَخَائِلِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ النَّاشِئَةِ عَنْ حَسَدِهِمْ وَفِي انْحِرَافِهِمْ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ ادِّعَائِهِمْ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ، فَقَدْ حَكَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ خِيَانَةَ فَرِيقٍ مِنْهُمْ.

وَقَدْ ذَكَرَ الله هُنَا أنّ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ تَعَفُّفًا عَنِ الْخِيَانَةِ وَفَرِيقًا لَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ مُتَعَلِّلِينَ لِإِبَاحَةِ الْخِيَانَةِ فِي دِينِهِمْ، قِيلَ: وَمِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَمِنَ الْفَرِيقِ الثَّانِي فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ وَكِلَاهُمَا مِنْ يَهُودِ يَثْرِبَ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ ذَمُّ الْفَرِيقِ الثَّانِي إِذْ كَانَ مِنْ دِينِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ إِبَاحَةُ الْخَوْنِ قَالَ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فَلِذَلِكَ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلَهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَخْ وَلِذَلِكَ طَوَّلَ الْكَلَامَ فِيهِ.

وَإِنَّمَا قَدَّمَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ إِنْصَافًا لِحَقِّ هَذَا الْفَرِيقِ، لِأَنَّ الْإِنْصَافَ مِمَّا اشْتُهِرَ بِهِ الْإِسْلَام، وَإِذ كَانَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ دِينَهُمْ يُبِيحُ لَهُمْ خِيَانَةَ غَيْرِهِمْ، فَقَدْ صَارَ النَّعْيُ عَلَيْهِمْ، وَالتَّعْبِيرُ بِهَذَا الْقَوْلِ لَازِمًا لِجَمِيعِهِمْ أِمِينِهِمْ وَخَائِنِهِمْ، لِأَنَّ الْأَمِينَ حِينَئِذٍ لَا مَزِيَّةَ لَهُ إِلَّا فِي أَنَّهُ تَرَكَ حَقًّا يُبِيحُ لَهُ دِينُهُ أَخْذَهُ، فَتَرَفَّعَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يَتَرَفَّعُ الْمُتَغَالِي فِي الْمُرُوءَةِ عَنْ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ.

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ مَضْمُونِ صِلَةِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا: فَفِي الْأَوَّلِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ قُوَّةِ الْأَمَانَةِ، مَعَ إِمْكَانِ الْخِيَانَةِ وَوُجُودِ الْعُذْرِ لَهُ فِي عَادَةِ أَهْلِ دِينِهِ، وَفِي الثَّانِي لِلتَّعْجِيبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْخَوْنُ خُلُقًا لِمُتَّبِعِ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، ثُمَّ يَزِيدُ التَّعْجِيبُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا فَيُكْسِبُ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِمَا زِيَادَةَ عَجَبِ حَالٍ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015