قِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ خِطَابًا لِثَقِيفٍ- أَهْلِ الطَّائِفِ- إِذْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَبَعْدَ حِصَارِ الطَّائِفِ عَلَى صُلْحٍ وَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ- الَّذِي أَوْلَاهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ- بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَانَتْ لَهُمْ مُعَامَلَاتٌ بِالرِّبَا مَعَ قُرَيْشٍ، فَاشْتَرَطَتْ ثَقِيفٌ قَبْلَ النُّزُولِ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ كُلَّ رِبًا لَهُمْ عَلَى النَّاسِ يَأْخُذُونَهُ، وَكُلَّ رِبًا عَلَيْهِمْ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَقَبِلَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ شَرْطَهُمْ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابًا لَهُمْ- وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ- فَقَالُوا: لَا يَدَيْ لَنَا (?) بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
فَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقًّا، فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذْ مَعْنَاهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ، وَانْدَفَعَتْ إِشْكَالَاتٌ عَرَضَتْ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَعْنِي إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِالشَّرْطِ فَقَدِ انْتَقَضَ الصُّلْحُ بَيْنَنَا، فَاعْلَمُوا أَنَّ الْحَرْبَ عَادَتْ جَذَعَةً، فَهَذَا كَقَوْلِهِ: «وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ» . وَتَنْكِيرُ حَرْبٍ لِقَصْدِ تَعْظِيمِ أَمْرِهَا وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَقْصِدِ عَدَلَ عَنْ إِضَافَةِ الْحَرْبِ إِلَى اللَّهِ وَجِيءَ عِوَضًا عَنْهَا بِمَنْ وَنُسِبَتْ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهَا بِإِذْنِهِ عَلَى سَبِيلِ مَجَازِ الْإِسْنَادِ، وَإِلَى رَسُولِهِ لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ وَالْمُبَاشِرُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. فَإِذَا صَحَّ مَا ذُكِرَ فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا فَهُوَ مِنْ تَجْوِيزِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحْكَامِ إِذْ قَبِلَ مِنْ ثَقِيفٍ النُّزُولَ عَلَى اقْتِضَاءِ مَا لَهُمْ مِنَ الرِّبَا عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا فَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى الصُّلْحَ مَعَ ثَقِيفٍ عَلَى دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مَعَ تَمْكِينِهِمْ مِمَّا لَهُمْ قِبَلَ قُرَيْشٍ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا الثَّابِتَةِ فِي ذِمَمِهِمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ مَصْلَحَةً، إِذِ الشَّأْنُ أَنَّ مَا سَبَقَ التَّشْرِيعَ لَا يُنْقَضُ كَتَقْرِيرِ أَنْكِحَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمْ يُقِرُّهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَرَ بِالِانْكِفَافِ عَنْ قَبْضِ مَالِ الرِّبَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمْ عَلَى خِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي الصُّلْحِ الَّذِي عَقَدُوهُ.