وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو حُصَيْنٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ بْنِ عَوْفٍ وَلَهُ ابْنَانِ جَاءَ تُجَّارٌ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَعَوْهُمَا إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، فَتَنَصَّرَا وَخَرَجَا مَعَهُمْ، فَجَاءَ أَبُوهُمَا فَشَكَا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَبَ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَرُدُّهُمَا مُكْرَهَيْنِ فَنَزَلَتْ لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ يَوْمَئِذٍ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَاتِ الْقِتَالِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْإِكْرَاهِ نَفْيُ تَأْثِيرِهِ فِي إِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ كُرْهًا فِرَارًا مِنَ السَّيْفِ، عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا [النِّسَاء:
94] . وَهَذَا الْقَوْلُ تَأْوِيلٌ فِي مَعْنَى الْإِكْرَاهِ وَحَمْلٌ لِلنَّفْيِ عَلَى الْإِخْبَارِ دُونَ الْأَمْرِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ التَّوْحِيدُ وَدِينٌ لَهُ كِتَابٌ سَمَاوِيٌّ وَإِنَّ نَفْيَ الْإِكْرَاهِ نَهْيٌ،
وَالْمَعْنَى لَا تُكْرِهُوا السَّبَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُنَّ أَهْلُ دِينٍ وَأَكْرِهُوا الْمَجُوسَ مِنْهُمْ وَالْمُشْرِكَاتِ.
وَقَوْلُهُ: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِقَوْلِهِ: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ.
والرشد- بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَبِفَتْحٍ فَفَتْحٍ- الْهُدَى وَسَدَادُ الرَّأْيِ، وَيُقَابِلُهُ الْغَيُّ وَالسَّفَهُ، وَالْغَيُّ الضَّلَالُ، وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ غَوَى الْمُتَعَدِّي فَأَصْلُهُ غَوِيٌ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتَا.
وَضُمِّنَ تَبَيَّنَ مَعْنَى تَمَيَّزَ فَلذَلِك عدي بِمن، وَإِنَّمَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ فِي بَلَدٍ مُسْتَقِلٍّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ إِذْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ التَّبْيِينِ إِلَّا الْكُفْرُ بِالطَّاغُوتِ، وَفِيه بَيَان لنفي الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ إِذْ قَدْ تَفَرَّعَ عَنْ تَمَيُّزِ الرُّشْدِ مِنَ الْغَيِّ ظُهُورُ أَنَّ مُتَّبِعَ الْإِسْلَامِ مُسْتَمْسِكٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فَهُوَ يَنْسَاقُ إِلَيْهِ اخْتِيَارًا.
وَالطَّاغُوتُ الْأَوْثَانُ وَالْأَصْنَامُ، وَالْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَ الصَّنَمَ الطَّاغِيَةَ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ»
، وَيَجْمَعُونَ الطَّاغُوتَ عَلَى طَوَاغِيتَ، وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الطُّغْيَانِ وَهُوَ الِارْتِفَاعُ وَالْغُلُوُّ فِي الْكِبْرِ وَهُوَ مَذْمُومٌ وَمَكْرُوهٌ. وَوَزْنُ طَاغُوتٍ عَلَى التَّحْقِيقِ طَغَيُوتٌ- فَعَلُوتٌ- مِنْ أَوْزَانِ الْمَصَادِرِ