وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَحْجُبُ عِلْمَهُ شَيْءٌ حَجْبًا ضَعِيفًا وَلَا طَوِيلًا وَلَا غَلَبَةً وَلَا اكْتِسَابًا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا تَطَلَّبَهُ الْفَخْرُ وَالْبَيْضَاوِيُّ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ السِّنَةِ عَلَى النَّوْمِ مُرَاعًى فِيهِ تَرْتِيبُ الْوُجُودِ، وَأَنَّ ذِكْرَ النَّوْمِ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِرَاسِ. وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى بَشَّارٌ وَصَاغَهُ بِمَا يُنَاسِبُ صِنَاعَةَ الشِّعْرِ فَقَالَ:

وَلَيْلٍ دَجُوجِيٍّ تَنَامُ بَنَاتُهُ ... وَأَبْنَاؤُهُ مِنْ طُولِهِ (?) وَرَبَائِبُهْ

فَإِنَّهُ أَرَادَ مِنْ بَنَاتِ اللَّيْلِ وَأَبْنَائِهِ السَّاهِرَاتِ وَالسَّاهِرِينَ بِمُوَاظَبَةٍ، وَأَرَادَ بِرَبَائِبِ اللَّيْلِ مَنْ هُمْ أَضْعَفُ مِنْهُمْ سَهَرًا لِلَيْلٍ لِأَنَّ الرَّبِيبَ أَضْعَفُ نِسْبَةً مِنَ الْوَلَدِ وَالْبِنْتِ.

وَجُمْلَةُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تَقْرِيرٌ لِانْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ إِذْ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مَخْلُوقَاتُهُ، وَتَعْلِيلٌ لِاتِّصَافِهِ بِالْقَيُّومِيَّةِ لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مِلْكًا لَهُ فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يَكُونَ قَيُّومَهَا وَأَلَّا يُهْمِلَهَا وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا.

وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ. وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ اسْتِغْرَاقُ أَمْكِنَةِ الْمَوْجُودَاتِ، فَقَدْ دَلَّتِ الْجُمْلَةُ عَلَى عُمُومِ الْمَوْجُودَاتِ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ مِلْكُهُ لِلْعُمُومِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَشِذُّ

عَنْ مِلْكِهِ مَوْجُودٌ فَحَصَلَ مَعْنَى الْحَصْرِ، وَلَكِنَّهُ زَادَهُ تَأْكِيدًا بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ- أَيْ لَا لِغَيْرِهِ- لِإِفَادَةِ الرَّدِّ عَلَى أَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الصَّابِئَةِ عَبْدَةِ الْكَوَاكِبِ كَالسُّرْيَانِ وَالْيُونَانِ وَمِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ حُصُولِ مَعْنَى الْحَصْرِ بِالْعُمُومِ لَا يَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى إِبْطَالِ الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَفَادَتْ تَعْلِيمَ التَّوْحِيدِ بِعُمُومِهَا، وَأَفَادَتْ إِبْطَالَ عَقَائِدِ أَهْلِ الشِّرْكِ بخصوصية الْقصر، وَهَذَا بلاغة معْجزَة.

وَجُمْلَةُ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِمَا أَفَادَهُ لَامُ الْمِلْكِ مِنْ شُمُولِ مِلْكِهِ تَعَالَى لِجَمِيعِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَمَا تَضَمَّنَهُ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ مِنْ قَصْرِ ذَلِكَ الْمِلْكِ عَلَيْهِ تَعَالَى قَصْرَ قَلْبٍ، فَبَطَلَ وَصْفُ الْإِلَهِيَّةِ عَن غَيره تَعَالَى، بِالْمُطَابَقَةِ. وَبَطَلَ حَقُّ الْإِدْلَالِ عَلَيْهِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ- الَّتِي لَا تُرَدُّ- بِالِالْتِزَامِ، لِأَنَّ الْإِدْلَالَ مِنْ شَأْنِ الْمُسَاوِي وَالْمُقَارِبِ، وَالشَّفَاعَةُ إِدْلَالٌ. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمُعْتَقَدِ مُعْظَمِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِآلِهَتِهِمْ وَطَوَاغِيتِهِمْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015