ثُمَّ قَالَ: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَصَارَ الْمَعْنَى لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اخْتَلَفُوا، لَكِنَّ الْخِلَافَ مَرْكُوزٌ فِي الْجِبِلَّةِ. بَيْدَ أَن الله تَعَالَى قَدْ جَعَلَ- أَيْضًا- فِي الْعُقُولِ أُصُولًا ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً ظَنًّا قَرِيبًا مِنَ الْقَطْعِ بِهِ تَسْتَطِيعُ الْعُقُولُ أَنْ تُعَيِّنَ الْحَقَّ مِنْ مُخْتَلِفِ الْآرَاءِ، فَمَا صَرَفَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِهِ إِلَّا التَّأْوِيلَاتُ الْبَعِيدَةُ الَّتِي تَحْمِلُ عَلَيْهَا الْمُكَابَرَةُ أَوْ كَرَاهِيَةُ ظُهُورِ الْمَغْلُوبِيَّةِ، أَو حب المدحة مِنَ الْأَشْيَاعِ وَأَهْلِ الْأَغْرَاضِ، أَوِ السَّعْيُ إِلَى عَرَضٍ عَاجِلٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا غَرَزَ فِي خِلْقَةِ النُّفُوسِ دَوَاعِيَ الْمَيْلِ إِلَى هَاتِهِ الْخَوَاطِرِ السَّيِّئَةِ فَمَا اخْتَلَفُوا خِلَافًا يَدُومُ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا هَذَا الْخِلَافَ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، فَلَا عُذْرَ فِي الْقِتَالِ إِلَّا لِفَرِيقَيْنِ: مُؤْمِنٍ، وَكَافِرٍ بِمَا آمَنَ بِهِ الْآخَرُ، لِأَنَّ الْغَضَبَ وَالْحَمِيَّةَ النَّاشِئَيْنَ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ قَدْ كَانَا سَبَبَ قِتَالٍ مُنْذُ قَدِيمٍ، أَمَّا الْخِلَافُ النَّاشِئُ بَيْنَ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ لَمْ يَبْلُغْ إِلَى التَّكْفِيرِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَبَبَ قِتَالٍ.
وَلِهَذَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ هُوَ بِهَا»
لِأَنَّهُ إِذَا نَسَبَ أَخَاهُ فِي الدِّينِ إِلَى الْكُفْرِ فَقَدْ أَخَذَ فِي أَسْبَابِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَوْلِيدِ سَبَبِ التَّقَاتُلِ، فَرَجَعَ هُوَ بِإِثْمِ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ الْمُتَسَبِّبُ فِيمَا يَتَسَبَّبُ عَلَى الْكُفْرِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَرَى بَعْضَ أَحْوَالِ الْإِيمَانِ كُفْرًا، فَقَدْ صَارَ هُوَ كَافِرًا لِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِيمَانَ كُفْرًا.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»
، فَجَعَلَ الْقِتَالَ شِعَارَ التَّكْفِيرِ. وَقَدْ
صَمَّ الْمُسْلِمُونَ عَنْ هَذِهِ النَّصِيحَةِ الْجَلِيلَةِ فَاخْتَلَفُوا خِلَافًا بَلَغَ بِهِمْ إِلَى التَّكْفِيرِ وَالْقِتَالِ، وَأَوَّلُهُ خِلَافُ الرِّدَّةِ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ خِلَافُ الْحَرُورِيَّةِ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ وَقَدْ كَفَّرُوا عَلِيًّا فِي قبُوله تحكيم الْحكمِي، ثُمَّ خِلَافُ أَتْبَاعِ الْمُقَنَّعِ بِخُرَاسَانَ الَّذِي ادّعى الإلاهية وَاتَّخَذَ وَجْهًا مِنْ ذَهَبٍ، وَظَهَرَ سَنَةَ 159 وَهَلَكَ سَنَةَ 163، ثُمَّ خِلَافُ الْقَرَامِطَةِ مَعَ بَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ شَائِبَةٌ مِنَ الْخِلَافِ الْمَذْهَبِيِّ لِأَنَّهُمْ فِي الْأَصْلِ مِنَ الشِّيعَةِ ثُمَّ تَطَرَّفُوا فَكَفَرُوا وَادَّعَوُا الْحُلُولَ- أَيْ حُلُولَ الرَّبِّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ- وَاقْتَلَعُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنَ الْكَعْبَةِ وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى بَلَدِهِمْ فِي الْبَحْرَيْنِ، وَذَلِكَ مِنْ سَنَةِ 293. وَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا خِلَافًا كَثِيرًا فِي الْمَذَاهِبِ جَرَّ بِهِمْ تَارَاتٍ إِلَى مُقَاتَلَاتٍ عَظِيمَةٍ، وَأَكْثَرُهَا حُرُوبُ الْخَوَارِجِ غَيْرِ الْمُكَفِّرِينَ لِبَقِيَّةِ الْأُمَّةِ فِي الْمَشْرِقِ، وَمُقَاتَلَاتُ أَبِي يَزِيدَ النَّكَارِيِّ الْخَارِجِيِّ بِالْقَيْرَوَانِ وَغَيْرِهَا سَنَةَ 333، وَمُقَاتَلَةُ الشِّيعَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ بِالْقَيْرَوَانِ سَنَةَ 407، وَمُقَاتَلَةُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ