نِظَامُ مَا عَلَيْهَا، ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَجْنَاسٍ وَأَنْوَاعٍ وَأَصْنَافٍ، خَلَقَهَا قَابِلَةً لِلِاضْمِحْلَالِ، وَأَوْدَعَ فِي أَفْرَادِهَا سُنَنًا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ بَقَاؤُهَا إِلَى أَمَدٍ أَرَادَهُ، وَلِذَلِكَ نَجِدُ قَانُونَ الْخَلَفِيَّةِ مُنْبَثًّا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ فَمَا مِنْ نَوْعٍ إِلَّا وَفِي أَفْرَادِهِ قُوَّةُ إِيجَادِ أَمْثَالِهَا لِتَكُونَ تِلْكَ الْأَمْثَالُ أَخْلَافًا عَنِ الْأَفْرَادِ عِنْدَ اضْمِحْلَالِهَا، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالتَّنَاسُلِ فِي الْحَيَوَانِ، وَالْبَذْرِ فِي النَّبْتِ، وَالنَّضْحِ فِي الْمَعَادِنِ، وَالتَّوَلُّدِ فِي الْعَنَاصِرِ الْكِيمَاوِيَّةِ. وَوُجُودُ هَذِهِ الْقُوَّةِ فِي جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ أَوَّلُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ مُوجِدَهَا قَدْ أَرَادَ بَقَاءَ الْأَنْوَاعِ، كَمَا أَرَادَ اضْمِحْلَالَ الْأَفْرَادِ عِنْدَ آجَالٍ مُعَيَّنَةٍ، لِاخْتِلَالِ أَوِ انْعِدَامِ صَلَاحِيَّتِهَا، وَنَعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ هَذِهِ الْأَكْوَانِ لَا يُحِبُّ فَسَادَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: 205] .
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا أَوْدَعَ فِي الْأَفْرَاد قُوَّة بهَا بَقَاء الْأَنْوَاع، أودع فِي الْأَفْرَاد أَيْضا قوى بهَا بَقَاء تِلْكَ الْأَفْرَاد بِقدر الطَّاقَة، وَهِي قوى تطلّب الملائم وَدفع الْمنَافِي، أَو تطلّب الْبَقَاء وكراهية الْهَلَاك، وَلذَلِك أودع فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ إِدْرَاكَاتٍ تَنْسَاقُ بِهَا، بِدُونِ تَأَمُّلٍ أَوْ بِتَأَمُّلٍ، إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهَا وَبَقَاؤُهَا، كَانْسِيَاقِ الْوَلِيدِ لِالْتِهَامِ الثَّدْيِ، وَأَطْفَالِ الْحَيَوَانِ إِلَى الْأَثْدَاءِ وَالْمَرَاعِي، ثُمَّ تَتَوَسَّعُ هَذِهِ الْإِدْرَاكَاتُ، فَيَتَفَرَّعُ عَنْهَا كُلُّ مَا فِيهِ جَلْبُ النَّافِعِ الْمُلَائِمِ عَنْ بَصِيرَةٍ وَاعْتِيَادٍ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ بِالْقُوَّةِ الشَّاهِيَةِ. وَأَوْدَعَ أَيْضًا فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ إِدْرَاكَاتٍ تَنْدَفِعُ بِهَا إِلَى الذَّبِّ عَنْ أَنْفُسِهَا، وَدَفْعِ الْعَوَادِي عَنْهَا، عَنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ، كَتَعْرِيضِ الْيَدِ بَيْنَ الْهَاجِمِ وَبَيْنَ الْوَجْهِ، وَتَعْرِيضِ الْبَقَرَةِ رَأْسَهَا بِمُجَرَّدِ الشُّعُورِ بِمَا يَهْجُمُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِي تَفَوُّقِ قُوَّةِ الْهَاجِمِ عَلَى قُوَّةِ الْمُدَافِعِ، ثُمَّ تَتَوَسَّعُ هَاتِهِ الْإِدْرَاكَاتُ فَتَتَفَرَّعُ إِلَى كُلِّ مَا فِيهِ دَفْعُ الْمَنَافِرِ مِنِ ابْتِدَاءٍ بِإِهْلَاكِ مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الضُّرُّ، وَمِنْ طَلَبِ الْكِنَّ، وَاتِّخَاذِ السِّلَاحِ، وَمُقَاوَمَةِ الْعَدُوِّ عِنْدَ تَوَقُّعِ الْهَلَاكِ، وَلَوْ بِآخِرِ مَا فِي الْقُوَّةِ وَهُوَ الْقُوَّةُ الْغَاضِبَةُ وَلِهَذَا تَزِيدُ قُوَّةُ
الْمُدَافَعَةِ اشْتِدَادًا عِنْدَ زِيَادَةِ تَوَقُّعِ الْأَخْطَارِ حَتَّى فِي الْحَيَوَانِ. وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ فِي كُلِّ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ أَسْبَابِ الْأَذَى لِمُرِيدِ السُّوءِ بِهِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا لِإِرَادَةِ بَقَائِهَا، وَقَدْ عَوَّضَ الْإِنْسَانَ عَمَّا وَهَبَهُ إِلَى الْحَيَوَانِ الْعَقْلَ وَالْفِكْرَةَ فِي التَّحَيُّلِ عَلَى النَّجَاةِ مِمَّنْ يُرِيدُ بِهِ ضَرَرًا، وَعَلَى إِيقَاعِ الضُّرِّ بِمَنْ يُرِيدُهُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَقْصِدَهُ بِهِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِاسْتِعْدَادِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ، أَوْ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ خَصَائِصَ فِيهَا مَنَافِعُ لِغَيْرِهِ وَلِنَفْسِهِ لِيَحْرِصَ كل على إبْقَاء الْآخَرِ، فَهَذَا نَامُوسٌ عَامٌّ، وَجَعَلَ