وَجُعِلَ التَّفَرُّقُ كِنَايَةً عَنْ إِنْكَارِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ تَفَرُّقَهُمْ كَانَ اخْتِلَافًا فِي تَصْدِيقِ بَيِّنَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَاسْتُعْمِلَ التَّفَرُّقُ فِي صَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ لِقَصْدِ إِدْمَاجِ مَذَمَّتِهِمْ بِالِاخْتِلَافِ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمرَان: 19] .
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْبَيِّنَةُ الْمَذْكُورَةِ ثَانِيًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَوْ لِلْمَعْهُودِ بَيْنَ
الْمُتَحَدِّثِ عَنْهُمْ، وَهِيَ بَيِّنَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْأُولَى وَإِعَادَتُهَا مِنْ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ نَكِرَةً مثلهَا إِذْ الْمُعَرّف بِلَامِ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ، أَوْ مِنْ إِعَادَةِ الْمَعْرِفَةِ الْمَعْهُودَةِ مَعْرِفَةً مِثْلَهَا، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا تَكُونُ الْمُعَادَةُ عَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَقَدْ أَطْبَقَتْ كَلِمَاتُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُمْ مَا تَفَرَّقُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، أَيْ تَبَاعَدُوا عَنْهُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ لِلَفْظِ التَّفَرُّقِ وَهُوَ صَرْفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ بَعِيدٌ فَأَشْكَلَ عَلَيْهِمْ وَجْهُ تَخْصِيصِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ التَّبَاعُدَ عَنِ الْإِسْلَامِ حَاصِلٌ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَجَعَلُوا الْمُرَادَ بِ الْبَيِّنَةُ الثَّانِيَةِ عَيْنَ الْمُرَادِ بِالْأُولَى وَهِيَ بَيِّنَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سِوَى أَنَّ الْفَخْرَ ذكر كَلِمَات تنبىء عَنْ مُخَالَفَةِ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَحْمَلِ تَفَرُّقِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ الْمَعْنَى بِمَا يُوَافِقُ كَلَامَ بَقِيَّةِ الْمُفَسِّرِينَ أَتَى بِمَا يَقْتَضِي حَمْلَ التَّفَرُّقِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَحَمْلَ الْبَيِّنَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَعْنًى مُغَايِرٍ لِمَحْمَلِ الْبَيِّنَةُ الْأُولَى، إِذْ قَالَ:
«الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَسْلِيَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَا يَغُمَّنَّكَ تَفَرُّقُهُمْ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِقُصُورٍ فِي الْحُجَّةِ بَلْ لِعِنَادِهِمْ فَسَلَفُهُمْ هَكَذَا كَانُوا لَمْ يَتَفَرَّقُوا فِي السَّبَبِ وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ إِلَّا بَعْدَ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، فَهِيَ عَادَةٌ قَدِيمَةٌ لَهُمْ» ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ، وَلَعَلَّهُ بَدَا لَهُ هَذَا الْوَجْهُ وَشَغَلَهُ عَنْ تَحْرِيرِهِ شَاغِلٌ وَهَذَا مِمَّا تَرَكَهُ الْفَخْرُ فِي المسودة.
[5]
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
هَذَا إِبْطَالٌ ثَالِثٌ لِتَنَصُّلِهِمْ مِنْ مُتَابَعَةِ الْإِسْلَامِ بِعِلَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ وَزَعْمِهِمْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَأْتِهِمْ.