وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة: 36] يُؤَيِّدُ أَنَّ الضَّرِيعَ اسْمُ شَجَرِ جَهَنَّمَ يَسِيلُ مِنْهُ الغسلين.
[8- 10]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10)
يتَبَادَر فِي بادىء الرَّأْيِ أَنَّ حَقَّ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ تُعْطَفَ عَلَى جُمْلَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ [الغاشية: 2] بِالْوَاوِ لِأَنَّهَا مُشَارِكَةٌ لَهَا فِي حُكْمِ الْبَيَانِ لِحَدِيثِ الْغَاشِيَةِ كَمَا عُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ
[عبس: 40] عَلَى جُمْلَةِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ فِي سُورَةِ عَبَسَ [38] . فَيَتَّجِهُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ وَجْهِ فَصْلِهَا عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَوَجْهُ الْفَصْلِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ فِي هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ [الْغَاشِيَةِ: 1] الْإِعْلَامُ بِحَالِ الْمُعَرَّضِ بِتَهْدِيدِهِمْ وَهُمْ أَصْحَابُ الْوُجُوهِ الْخَاشِعَةِ فَلَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ الْإِعْلَامُ بِجُمْلَةِ:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ [الغاشية: 2] إِلَى آخِرِهَا تَمَّ الْمَقْصُودُ، فَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا مَفْصُولَةً لِأَنَّهَا جُعِلَتِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تُثِيرُهُ الْجُمْلَةُ السَّابِقَةُ فَيَتَسَاءَلُ السَّامِعُ: هَلْ مِنْ حَدِيثِ الْغَاشِيَةِ مَا هُوَ مُغَايِرٌ لِهَذَا الْهَوْلِ؟ أَيْ مَا هُوَ أُنْسٌ وَنَعِيمٌ لِقَوْمٍ آخَرِينَ.
وَلِهَذَا النَّظْمِ صَارَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِطْرَادِ وَالتَّتْمِيمِ، لِإِظْهَارِ الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَيِ الْفَرِيقَيْنِ وَلِتَعْقِيبِ النِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ مَوْقِعُ الِاعْتِرَاضِ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الِاسْتِئْنَافِ وَالِاعْتِرَاضِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِفَصْلِهَا عَمَّا قَبْلَهَا. وَفِيهِ جَرْيُ الْقُرْآنِ عَلَى سُنَنِهِ مِنْ تَعْقِيبِ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ.
فَأَمَّا الْجُمْلَتَانِ اللَّتَانِ فِي سُورَةِ عَبَسَ فَلَمْ يَتَقَدَّمْهُمَا إِبْهَامٌ لِأَنَّهُمَا مُتَّصِلَتَانِ مَعًا بِالظَّرْفِ وَهُوَ فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ [عبس: 33] .
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ سِيَاقِ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْوُجُوهَ الْأُولَى وُجُوهُ الْمُكَذِّبِينَ بِالرَّسُولِ، وَالْوُجُوهَ الْمَذْكُورَةَ بَعْدَهَا وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ.