وَعَلَى قِرَاءَةِ تَشْدِيدِ الْمِيمِ تَكُونُ (إِنْ) نَافِيَةً ولَمَّا حَرْفٌ بِمَعْنَى (إِلَّا) فَإِنَّ (لَمَّا) تَرِدُ بِمَعْنَى (إِلَّا) فِي النَّفْيِ وَفِي الْقَسَمِ، تَقُولُ: سَأَلْتُكَ لَمَّا فَعَلْتَ كَذَا أَيْ إِلَّا فَعَلْتَ، عَلَى تَقْدِيرِ: مَا أَسْأَلُكَ إِلَّا فِعْلَ كَذَا فَآلَتْ إِلَى النَّفْيِ وَكُلٌّ مِنْ (إِن) المخففة و (إِنِ) النَّافِيَةِ يُتَلَقَّى بِهَا الْقَسَمُ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْجَوَابُ زِيَادَةً عَلَى إِفَادَتِهِ تَحْقِيقَ الْجَزَاءِ إِنْذَارًا لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ اعْتِقَادَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ وَأَنَّهُ سَيُجَازِيهِمْ على ذَلِك.
[5- 7]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ فِي الْخِلْقَةِ الْأُولَى، عَلَى مَا أُرِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطارق: 4] مِنْ لَوَازِمَ مَعْنَاهُ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ التَّلْوِيحِيَّةِ الرَّمْزِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ رَأَيْتُمُ الْبَعْثَ مُحَالًا فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ
مِمَّ خُلِقَ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْخَلْقَ الثَّانِيَ لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ.
فَهَذِهِ الْفَاءُ مُفِيدَةٌ مُفَادَ فَاءِ الْفَصِيحَةِ.
وَالنَّظَرُ: نَظَرُ الْعَقْلِ، وَهُوَ التَّفَكُّرُ الْمُؤَدِّي إِلَى عِلْمِ شَيْءٍ بِالِاسْتِدْلَالِ فَالْمَأْمُورُ بِهِ نَظَرُ الْمُنْكِرِ لِلْبَعْثِ فِي أَدِلَّةِ إِثْبَاتِهِ كَمَا يَقْتَضِيهِ التَّفْرِيعُ عَلَى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطارق: 4] .
وَ (مِنْ) مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّ خُلِقَ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِ خُلِقَ وَالْمَعْنَى: فَلْيَتَفَكَّرِ الْإِنْسَانُ فِي جَوَابِ: مَا شَيْءٌ خُلِقَ مِنْهُ؟ فقدّم المتعلّق عَلَى عَامِلِهِ تَبَعًا لِتَقْدِيمٍ مَا اتَّصَلَتْ بِهِ مِنْ (مِنِ) اسْم الِاسْتِفْهَام.
و (مَا) اسْتِفْهَامِيَّةٌ عَلَّقَتْ فِعْلَ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ عَنِ الْعَمَلِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِيقَاظِ وَالتَّنْبِيهِ إِلَى مَا يَجِبُ عِلْمُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: 18] . فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مَجَازٌ مُرْسَلٌ مُرَكَّبٌ.
وَحَذَفَ أَلِفَ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ وُقُوعِهَا مَجْرُورَةً.