وَبِذَلِكَ يَسْتَبِينُ أَنَّ مَا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى نَبِيئِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ وَحْيٌ لَهُ بِأَمْرٍ كَانَ مُغَيَّبًا عَنْهُ حِينَ أَقْبَلَ عَلَى دَعْوَةِ الْمُشْرِكِ وَأَرْجَأَ إِرْشَادَ الْمُؤْمِنِ. وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ حَالِهِمَا مَا يُؤْذِنُ بِبَاطِنِهِ وَمَا أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهَا غَيْبَ عِلْمِهِ إِلَّا لِإِظْهَارِ مَزِيَّةِ مُؤْمِنٍ رَاسِخِ الْإِيمَانِ وَتَسْجِيلِ كَفْرِ مُشْرِكٍ لَا يُرْجَى مِنْهُ الْإِيمَانُ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَذْكِيرِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا علمه اللَّهُ مِنْ حُسْنِ أَدَبِهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَفْعِ شَأْنِهِمْ أَمَامَ الْمُشْرِكِينَ. فَمَنَاطُ الْمُعَاتَبَةِ هُوَ الْعُبُوسُ لِلْمُؤْمِنِ بِحَضْرَةِ الْمُشْرِكِ الَّذِي يَسْتَصْغِرُ أَمْثَالَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَمَا وَقَعَ فِي خِلَالِ هَذَا الْعِتَابِ مِنْ ذِكْرِ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ إِنَّمَا هُوَ إِدْمَاجٌ لِأَنَّ فِي الْحَادِثَةِ فُرْصَةً مِنَ التَّنْوِيهِ بِسُمُوِّ مَنْزِلَةِ الْمُؤْمِنِ لِانْطِوَاءِ قَلْبِهِ عَلَى أَشِعَةٍ تُؤَهِّلُهُ لِأَنْ يَسْتَنِيرَ بِهَا وَيُفِيضَهَا عَلَى غَيْرِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْمُعَاتَبَةِ وَالتَّعْلِيمِ، عَلَى سَنَنِ هَدْيِ الْقُرْآنِ فِي الْمُنَاسَبَاتِ.
[11- 16]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)
كَلَّا إِبْطَالٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ (كَلَّا) فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [79- 82] ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي سُورَةِ النَّبَأِ [4، 5] ، وَهُوَ هُنَا إِبْطَالٌ لِمَا جَرَى فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ وَلَوْ بِالْمَفْهُومِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: 3] . وَلَوْ بِالتَّعْرِيضِ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: 1] .
وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي الْمُتَقَدِّمِ يَنْصَرِفُ الْإِبْطَالُ إِلَى عَبَسَ وَتَوَلَّى خَاصَّةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [عبس: 7] عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ، أَيْ لَا تظن أَنَّك مسؤول عَنْ مُكَابَرَتِهِ وَعِنَادِهِ فَقَدْ بَلَّغْتَ مَا أُمِرْتَ بِتَبْلِيغِهِ.
إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (50) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) .
اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ حَرْفِ الْإِبْطَالِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِتَابِ ثُمَّ مَا عَقِبَهُ مِنَ الْإِبْطَالِ يُثِيرُ فِي خَاطِرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَيْرَةَ فِي كَيْفَ يَكُونُ الْعَمَلُ فِي دَعْوَةِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ إِذَا لَمْ يَتَفَرَّغْ لَهُمْ لِئَلَّا يَنْفِرُوا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ يُثِيرُ