وَجِيءَ بِجُمْلَةِ إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ نَبْتَلِيهِ تَفَنُّنًا فِي نَظْمِ الْكَلَامِ.
وَحَقِيقَةُ الِابْتِلَاءِ: الِاخْتِبَارُ لِتُعْرَفَ حَالُ الشَّيْءِ وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّكْلِيفِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْعَظِيمَ يُظْهِرُ تَفَاوُتَ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ فِي الْوَفَاءِ بِإِقَامَتِهِ.
وَفُرِّعَ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ نُطْفَةٍ أَنَّهُ جَعَلَهُ سَمِيعاً بَصِيراً، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْحَوَاسِّ الَّتِي كَانَتْ أَصْلَ تَفْكِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ وَصْفُهُ بِالسَّمِيعِ الْبَصِيرِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ وَلَمْ يَقُلْ فَجَعَلْنَاهُ: سَامِعًا مُبْصِرًا، لِأَنَّ سَمْعَ الْإِنْسَانِ وَبَصَرَهُ أَكْثَرُ تَحْصِيلًا وَتَمْيِيزًا فِي الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصِرَاتِ مِنْ سَمْعِ وَبَصَرِ الْحَيَوَانِ، فَبِالسَّمْعِ يَتَلَقَّى الشَّرَائِعَ وَدَعْوَةَ الرُّسُلِ وَبِالْبَصَرِ يَنْظُرُ فِي أَدِلَّةِ وُجُودِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ.
وَهَذَا تَخَلُّصٌ إِلَى مَا مَيَّزَ اللَّهُ بِهِ الْإِنْسَانَ مِنْ جَعْلِهِ تِجَاهَ التَّكْلِيفِ وَاتِّبَاعِ الشَّرَائِعِ وَتِلْكَ خَصِيصِيِّةُ الْإِنْسَانِ الَّتِي بِهَا ارْتَكَزَتْ مَدَنِيَّتُهُ وَانْتَظَمَتْ جَامِعَاتُهُ، وَلِذَلِكَ أُعْقِبَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ الْآيَات.
[3]
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِبَيَانِ مَا نَشَأَ عَنْ جملَة نَبْتَلِيهِ [الْإِنْسَان: 2] وَلِتَفْصِيلِ جُمْلَةِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الْإِنْسَان: 2] ، وَتَخَلُّصٌ إِلَى الْوَعِيدِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْوَعْدِ عَلَى الشُّكْرِ.
وَهِدَايَةُ السَّبِيلِ: تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُرْشِدِ. والسَّبِيلَ: الطَّرِيقُ الْجَادَّةُ إِلَى مَا فِيهِ النَّفْعُ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ إِلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ فَوْزِهِ بِالنَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ، بِحَالِ مَنْ يَدُلُّ السَّائِرَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى مَقْصِدِهِ مِنْ سَيْرِهِ.
وَهَذَا التَّمْثِيلُ يَنْحَلُّ إِلَى تَشْبِيهَاتِ أَجْزَاءِ الْحَالَةِ الْمُرَكَّبَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِأَجْزَاءِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، فَاللَّهُ تَعَالَى كَالْهَادِي، وَالْإِنْسَانُ يُشْبِهُ السَّائِرَ الْمُتَحَيِّرَ فِي الطَّرِيقِ، وَأَعْمَالُ الدِّينِ تُشْبِهُ الطَّرِيقَ، وَفَوْزُ الْمُتَتَبِّعِ لِهَدْيِ اللَّهِ يُشْبِهُ الْبُلُوغَ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ.
وَفِي هَذَا نِدَاء عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرْشَدَ الْإِنْسَانَ إِلَى الْحَقِّ وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ أَدْخَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ضَلَالَ الِاعْتِقَادِ وَمَفَاسِدَ الْأَعْمَالِ، فَمَنْ بَرَّأَ نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الشَّاكِرُ