ذَلِكَ مِنْ مَفَاسِدَ جَسِيمَةٍ، لَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ أَنْ يُهْمِلَهُ مِثْلَ الْحَيَوَانِ فَيَجْعَلَ الصَّالِحِينَ كَالْمُفْسِدِينَ وَالطَّائِعِينَ لِرَبِّهِمْ كَالْمُجْرِمِينَ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الْمُتَمَكِّنُ بِحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَنْ يَجْعَلَ إِلَيْهِ الْمَصِيرَ، فَلَوْ أَهْمَلَهُ لَفَازَ أَهْلُ الْفَسَادِ فِي عَالَمِ الْكَسَادِ، وَلَمْ يُلَاقِ الصَّالِحُونَ مِنْ صَلَاحِهِمْ إِلَّا الْأَنْكَادَ، وَلَا يُنَاسِبُ حِكْمَةَ الْحَكِيمِ إِهْمَالُ النَّاسِ يَهِيمُونَ فِي كل وَادي، وَتَرْكُهُمْ مَضْرِبًا لِقَوْلِ الْمَثَلِ «فَإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي» .

وَلِذَلِكَ قَالَ فِي جَانِبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: 3] ، أَيْ لَا نُعِيدَ خَلْقَهُ وَنَبْعَثَهُ لِلْجَزَاءِ كَمَا أَبْلَغْنَاهُمْ، وَجَاءَ فِي جَانِبِ حِكْمَتِهِ بِمَا يُشَابِهُ الْأُسْلُوبَ السَّابِقَ فَقَالَ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً مَعَ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً، أَيْ لَا يحْسب أَنه يُتْرَكَ غَيْرَ مَرْعِيٍّ بِالتَّكْلِيفِ كَمَا تُتْرَكُ الْإِبِلُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُجَازَاةَ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ فِيمَا عَلِمْتُ أَنَّ السُّدَى الَّذِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى اهـ. وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ يُتْرَكَ سُدىً كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَقْصُودٌ مِنْهُ الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَة.

[37- 40]

[سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 37 إِلَى 40]

أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)

اسْتِئْنَافٌ هُوَ عِلَّةٌ وَبَيَانٌ لِلْإِنْكَارِ الْمَسُوقِ لِلِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ [الْقِيَامَة: 36] الَّذِي جعل تكريرا وتأييدا لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ الْآيَةَ، أَيْ أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ مَادَّةٍ ضَعِيفَةٍ وَتَدَرُّجَهُ فِي أَطْوَارِ كِيَانِهِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِنْشَائِهِ إِنْشَاءً ثَانِيًا بَعْدَ تَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ وَاضْمِحْلَالِهَا، فَيَتَّصِلُ مَعْنَى الْكَلَامِ هَكَذَا: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ لَنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ وَيَعُدُّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرًا. أَلَمْ نَبْدَأْ خَلْقَهُ إِذْ كَوَّنَاهُ نُطْفَةً ثُمَّ تَطَوَّرَ خَلْقُهُ أَطْوَارًا فَمَاذَا يُعْجِزُنَا أَنْ نُعِيدَ خَلْقَهُ ثَانِيًا كَذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى:

كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: 104] .

وَهَذِهِ الْجُمَلُ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى.

وَهَذَا الْبَيَانُ خَاصٌّ بِأَحَدِ مَعْنَيَيِ التَّرْكِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ تَرْكُهُ دُونَ إِحْيَاءٍ وَأَكْتَفِي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015