يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)
نُودِيَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِهِ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ تَلَبَّسَ بِهَا حِينَ نُزُولِ السُّورَةِ. وَهِيَ
أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْمَلَكَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَرِقَ مِنْ رُؤْيَتِهِ فَرَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي، أَوْ قَالَ: زَمِّلُونِي، أَوْ قَالَ: زَمِّلُونِي
فَدَثِّرُونِي، عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا ظَاهِرٌ فَدَثَّرَتْهُ فَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.
وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [الْمُزَّمِّلُ: 1] مَا فِي هَذَا النِّدَاءِ مِنَ
التَّكْرِمَةِ وَالتَّلَطُّفِ.
والْمُدَّثِّرُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ تَدَثَّرَ، إِذَا لَبِسَ الدِّثَارَ، فَأَصْلُهُ الْمُتَدَثِّرُ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ لِتَقَارُبِهِمَا فِي النُّطْقِ كَمَا وَقَعَ فِي فِعْلِ ادَّعَى.
وَالدِّثَارُ: بِكَسْرِ الدَّالِ: الثَّوْبُ الَّذِي يُلْبَسُ فَوْقَ الثَّوْبِ الَّذِي يُلْبَسُ مُبَاشِرًا لِلْجَسَدِ الَّذِي يُسَمَّى شِعَارًا.
وَفِي الْحَدِيثِ «الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ»
. فَالْوَصْفُ بِ الْمُدَّثِّرُ حَقِيقَةٌ، وَقِيلَ هُوَ مَجَازٌ عَلَى مَعْنَى: الْمُدَّثِّرُ بِالنُّبُوءَةِ، كَمَا يُقَالُ: ارْتَدَى بِالْمَجْدِ وَتَأَزَّرَ بِهِ عَلَى نَحْوِ مَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، أَيْ يَا أَيُّهَا اللَّابِسُ خُلْعَةَ النُّبُوءَةِ وَدِثَارَهَا.
وَالْقِيَامُ الْمَأْمُورُ بِهِ لَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ حِينَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِهَذَا نَائِمًا وَلَا مُضْطَجِعًا وَلَا هُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَنْهَضَ عَلَى قَدَمَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْمُبَادَرَةِ وَالْإِقْبَالِ وَالتَّهَمُّمِ بِالْإِنْذَارِ مَجَازًا أَوْ كِنَايَةً.
وَشَاعَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي فِعْلِ الْقِيَامِ حَتَّى صَارَ مَعْنَى الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ مِنْ مَعَانِي مَادَّةِ الْقِيَامِ مُسَاوِيًا لِلْحَقِيقَةِ وَجَاءَ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَعَدَّ ابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» فِعْلَ قَامَ مِنْ أَفْعَالِ الشُّرُوعِ، فَاسْتِعْمَالُ فِعْلِ الْقِيَامِ فِي مَعْنَى الشُّرُوعِ قَدْ يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ لَازِمِ الْقِيَامِ مِنَ الْعَزْمِ وَالتَّهَمُّمِ كَمَا فِي الْآيَةِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : قُمْ قِيَامَ عَزْمٍ وَتَصْمِيمٍ.
وَقَدْ يُرَادُ الْمَعْنَى الصَّرِيحُ مَعَ الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ نَحْوَ قَوْلِ مُرَّةَ بْنِ مَحْكَانَ التَّمِيمِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ: